محمد يونس العبادي (*)
لربما لم يعِش المجتمع العربي زمانًا كهذا الزمان، بمفارقاته الممتدة ما بين الأصولية التي تصحو والنداءات بالتحديث أو “اللبرلة”. ويمكن القول إنّ ما تمّر به الشخصية العربية اليوم من حالة فقدان سماتها، غير مسبوق في تاريخنا العربي، من خلال حالة التشظي الجلية على الصعد كافة، وقد أنهكتها طروحات وأطر وعولمة وأدلجة، مع محاولة البعض استجرار ما مضى وإسقاطه على الحاضر، مستجلباً حقب الضعف، على أمل إعادة إنتاج علاجات مماثلة لأزمنة مضت، كما حصل في زمان الحمدانيين والبويهيين والإخشيديين.
اليوم، والحديث قائم عن المستقبل والتركة الثقيلة، يرى البعض غياب المثقف وفقدانه لسبل التواصل الحديثة، نظرًا لازدحام النشطاء ومنتجات زمن العولمة، بالإضافة إلى أنّ هذه الوسائل لا تستسيغها العامة.
ما البديل في ظل هذه الفجوة المتزايدة؟ وكيف يمكن لنا الحديث عن مستقبل للمجتمعات العربية في ظل انحسار دور المثقف؟ ومن اغتال دور الثقافة حتى غاب تأثير أهلها على الحياة العامة؟ وهل نملك البديل؟
في تقاليدنا التعليمية والمعرفية، نرفع شعار النهضة بالثقافة، وفي واقعنا العربي والمحلي نرى عزوفًا عن الإنصات للمثقفين، لا بل إنّ كثيرًا من المثقفين لا يحظون بمساحة الحضور إلّا إذا انتزعوا اعتراف الغرب بهم، وهم قلّة على كل حال.
هذا الفراغ، ترك للأصوليات مساحة حرّة باتت تنتج نقائض الحضارة، وتترك مثالب كثيرة على امتداد المجتمعات العربية.
اليوم، يدور حوار عن مشروع حضاري عربي يمكن قراءة إرهاصاته الأولى من تجارب عربية عدّة، يسجل للأردن أنه من بينها. فمثلًا، التجربة التونسية وارتدادات الحوار السياسي على المشهد الثقافي، وطرح أسئلة تتعلّق بالدولة والمجتمع الذي نريد. وكذلك في وطننا الحبيب، حيث نجحت الأوراق النقاشية الملكية باجتراح السبل لقيام الدولة المدنية وتكريس هويتها العربية.
وأيضًا، هناك تيارات تتوالد تحمل شعار التحضّر، والجديد في إرهاصاتها أنها لأول مرة منذ زمن عربي طويل تشرك فعاليات المجتمعات بالتفكير بالشكل الذي تريد أن تكون عليه في الحاضر والمستقبل.
إنّ وجود وسائل التواصل الاجتماعي، نقلنا إلى ما يعرف باسم وسائل التواصل الشبكي الاجتماعي، وعلى المثقف أن يعي أنّ هذا المجتمع الجديد مغاير للمجتمع التنموي الذي كان المثقف يتفاعل معه؛ فإمّا أن يظل المثقف محافظاً على خطابه المتعالي فيكون خارج دوائر الفعل والقرار، أو يكون خارج المجتمع الرقمي، وهذا يدعونا إلى الالتفات إلى إعادة إنتاج المثقف الذي ينهض بأعباء الإصلاح والتنمية، وأن يقود الفكر والثقافة إلى مستويات إبداعية أرحب لا بد من أن تترك مساحة للمثقف لكي يعود لدوره ويسهم في الحوار.
في ضوء ذلك، يبدو من غير المعقول، في أي نقاش، أن يغيب الأكاديميون، ممن يعتبرون أنفسهم قامات ثقافية، ومن غير المعقول أن لا نسرّب إلى مدارسنا وقاعاتنا الجامعية ما للثقافة من دور لإنضاج التجارب، وتجاوز هذه الكبوة.. فالخشية في هذا الغياب أن يصحو مثقف المستقبل على هوية وواقع لا يشبه مفردات إرثه، فتكون أجيال جديدة أمام ظاهرة اغتراب صنعها عزوف أو تكاسل، أو لربما تهميش غير متعمد!
إننا اليوم، نعيش مرحلة تحول عربيٍ سريعةٍ في مجتمعاتنا العربية، وتبدل الأدوات والمسارات؛ وتفكير الجيل الجديد يجب ألّا يرافقه تغييب أو غياب لدور الثقافة، بمفهومها الرحب والواسع، والقادر على مواكبة المعاصرة؛ وهذه على كل حال مهمة المثقف في أنّ يجدد أدواته.
(*) المدير العام السابق للمكتبة الوطنية في عمّان