/خلود شحادة/
تميز الإعلام اللبناني، وتفرّد أحياناً، بمساحة الحرية التي يتمتع بها، مقارنة مع المحيط العربي، وكان دائماً مساحة للتعبير “حيث لا يجرؤ الآخرون”.
راجت الكوميديا السوداء في الإعلام اللبناني، وتعددت البرامج والـ”ستاند أب” التي تتناول الوضع المعيشي بشكل ساخر، ولكنها وقعت مراراً في فخ التنميط المناطقي أو الطائفي وحتى الجندري.
هذا التنميط قوبل في مرات عدة برفض واستنكار من البيئة المنمّطة، فاعتبروه “تشويهاً” لصورة هذه المنطقة وتلك الطائفة وغيرها.
على سبيل المثال، عانت بعلبك ـ الهرمل كثيراً من الصورة النمطية التي رسختها “الكوميديا السوداء” في أذهان الناس، ومنها ربط “الحشيشة” بالمنطقة، وكذلك التفلّت الأمني.
وطرابلس أيضاً، في نفس الخندق، والتي صوّرها الإعلام أحياناً “وكراً للخلايا الإرهابية”، وكأنها قندهار.
شخصية “أم خالد”، التي جسّدتها سابقاً جوانا كركي، نمّطت المرأة البيروتية بأسلوب لم يحبّذه أبناء المنطقة.
كركي انتقلت من تجسيد صورة المرأة البيروتية، إلى شخصية المرأة الجنوبية تحت اسم “بتول”، معتمدة اللهجة الجنوبية “المبالغ بها”، وأسلوب تصرف يعتبر “غير متحضر”، ولا يشبه المرأة الجنوبية لا من قريب ولا من بعيد.
عند كل “زحطة”، يخرج البعض للدفاع عن فكرة “الكوميديا السوداء”، خاصة لما تشكّله من كسر للمحظور، الذي يعتبر عامل جذب للمشاهدين.
وآخر هذه “الزحطات”، مقطع فيديو انتشر لكركي بشخصية “بتول”، عبر قناة “الجديد”، ضمن برنامج “فشة خلق” الذي تقدمه الإعلامية داليا أحمد، تتهم فيه النساء الجنوبيات، أنهن أقمن علاقات مع رجال “اليونفيل”، مما أدى إلى ظاهرة “العيون الملوّنة” في منطقة الجنوب.
مقطع فيديو، كان كفيلاً بإشعال مواقع التواصل الاجتماعي، تهجماً على قناة “الجديد” وما قدمته “بتول”، معتبرين أن ما طرحته يطعن بشرف نساء الجنوب وعفّتهن.
لا شك بأن حرية الإعلام وحرية التعبير “مقدسة” في الدستور وفي الوجدان الإعلامي. ولكن هذه “القدسية” لا تبيح لأي فرد ولأي مؤسسة إعلامية، بغض النظر عن انتمائها وتوجهها وسياستها، المساس بالشخص الانساني، والطعن بشريحة واسعة من الناس، ولا تسمح هذه “القدسية” الممنوحة للحرية والإعلام بانتهاك “قدسية” شرف الناس وأعراضهم. فهذه القدسية ترتبط بالوجود الإنساني والاجتماعي، وليست وليدة رغبة أو تقدّم حضاري.
ما فعلته “بتول” هو جريمة تتحمّل مسؤوليتها شخصياً، وما سمحت محطة “الجديد” ببثّه على الهواء هو جريمة أخلاقية وإعلامية ووطنية وإنسانية.
أعراض النساء ليست للمزاح والتنكيت.
اعراض النساء، ليست للتهكّم والتطاول والتشكيك.
ما فعلته “الجديد” لا يستقيم إعلامياً، ولا أخلاقياً، ولا وطنياً ولا دينياً.
هذا ما نسمّيه في شرعنا “قذف المحصنات”، وهو ما تحرّمه أيضاً شريعة المسيح عليه السلام، وكل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.
اخترقت محطة “الجديد” كل هذه القوانين، السماوية والدنيوية.
هذا ينطبق على توصيف أي فئة أو منطقة أو طائفة أو جغرافيا، بما يسيء إلى تاريخها وحاضرها.
الموضوع لا يتعلّق بـ”العفة” فقط.. إنها قضية استباحة المحرمات، وإهانة كرامات الناس، وتتهم أهل الجنوب، من كل الطوائف والمذاهب، بأنهم “أبناء زنا” و”أولاد حرام”!
غاب عن ذهن معدّ هذه الفقرة ومقدمتها، أن نساء الجنوب قاتلن باللحم الحي، ووقفن على مسافة صفر بوجه العدو الإسرائيلي، ورمين الزيت المغلي ليمنعن العدو الإسرائيلي من الولوج إلى قراهن.
هي إهانة إلى كل مقاوم ومقاومة… إهانة إلى سهى بشارة وسناء محيدلي… وإلى قائمة طويلة من الشهداء والأحياء الذين قاتلوا الاحتلال، دفاعاً عن الشرف والكرامة والأرض والوطن.
ربما سيغفر اللبنانيون عامة، والجنوبيون خاصة، ما جرى عبر شاشة “الجديد” لو أنها اعتذرت عن هذا الخطأ الفادح بحق الجنوبيات والجنوبيين، معترفة أنها “سقطة” لا يمكن لها أن تتكرر لأن أي حرية نمارسها يجب أن لا تتعدى حرية الآخرين.
وربما لن تفعل “الجديد” ذلك، ويكون ما سمحت به عبر شاشتها مقصود عن سابق اصرار وترصّد، لإسقاط فكرة معينة على هذه البيئة في سياق مشروع سياسي لديه أهداف محددة، ويشارك فيها ويسمح بها أو يسكت عنها من هم من أبناء الجنوب في أي موقع كانوا في محطة “الجديد”، حتى لو كانت على حساب شرفهم الذي طعنوه وهم يبتسمون.
في كل الأحوال، ربما بات من الملحّ مراجعة مفهوم “الحرية” لدينا، وتحديداً لدى الجيل الناشئ، الذي يعتبر أن الحرية تعني أن كل شيء مباح، من دون أي ضابط أخلاقي أو رادع انساني، يدفع البعض إلى المس بكرامات الناس تحت شعار “الكوميديا”.