/ جورج علم /
قد يكون للمكان قدسيته، لكن التعريف جاء مغمّساً بدم إيرلندي أزرق، بدلاً من أن يكون مرصوفاً بحبر القيم الإنسانيّة، والحضاريّة.
في العاقبيّة، كان عِقاب، ومُعاقِب، ومُعاقب لا لذنب اقترفه، سوى “مرّ من هنا!”.
كان يمكن الإقتناع بنظريّة “القضاء والقدر”. لكن لا القضاء برّر أحكامه، ولا القدر عفّف بيانه، وما قاله وزير الداخليّة بسام المولوي كان جرحاً مفتوحاً على خلفيات ودلالات، قال:
- “إن الإعتداء جريمة. وليس حادثاً عرضيّاً”.
- رفض الذريعة التي تقول: “إن الحادث من فعل الأهالي”.
- اعتبر أن “من يقف وراءه لا يخفي نفسه”.
- أشار إلى أنه “تمّ اعتراض سيارة جنود حفظ السلام في موقعين، وفق التحقيقات”.
والخلاصة، أن العاقبيّة قدّمت نفسها إلى الرأي العام المحلّي، والإقليمي، والدولي، على أنها صندوقة بريد، وقد اختير الإيرلندي، ربما صدفة، لإيصال رسائل مشفّرة، محبّرة بدمه الأزرق إلى:
- مجلس الأمن الدولي، الذي اجتمع في نهاية آب الماضي، واتخذ قراراً بتمديد مهام (اليونيفيل) لمدة عام، مع إدخال تعديل يقضي بتوسيع نطاق صلاحياتها، ومداهمة الأماكن المشبوهة، ومخابىء الأسلحة أنّ وجدت في منطقة عملياتها. وقد أثار هذا التعديل يومها حملة واسعة ضدّ رئيس الحكومة، واتهمت وزارة الخارجيّة بـ”الجهل، أو التواطؤ”.
- إلى الأمم المتحدة، بعد طرد إيران من لجنة حقوق المرأة التابعة للمنظمة الدوليّة.
- إلى دول الاتحاد الأوروبي التي تشكّل الرافد الأساسي، والمعين الرئيسي لقوة (اليونيفيل)، بعد العقوبات الجديدة التي فرضتها على طهران بسبب قمع المتظاهرين. وأيضاً بسبب تدخلها في حرب أوكرانيا.
- إلى دول عربيّة وإقليميّة صاحبة تأثير على ملفات داخليّة وخارجيّة، تهمّ محور الممانعة، ولا تقف منها موقف الداعم أو المسهّل.
وتبقى العبرة في تلك الموّجهة الى الداخل، والتي أثارت حفيظة البطريرك بشارة الراعي في عظته يوم الأحد الماضي، ومعه العديد من القيادات والفعاليات التي اعتبرت أن البيئة التي حوّلت عربة (اليونيفيل) إلى حدث دام، هي “بيئة ولاّدة” أوصلت البلد إلى ما هو عليه من واقع مأزوم، لا قدرة له على جمع أشلائه للنهوض، ولا رغبة عند الخارج ـ لغاية الآن ـ بالتدخل لفرض توازن جديد.
وبكلام أكثر صراحة: هناك من ينظر إلى هذه البيئة على أنها ولاّدة أزمات لفرض توازنات مرفوضة. وينظر إلى واقعة العاقبيّة، على أنها محاولة لخلط الأوراق، ووضع الإستحقاق الرئاسي على رفّ الإنتطار الطويل، والمكلف، وفرض واقع جديد على أرض الجنوب يشغل الخارج، قبل الداخل، ويدفع بالبلد نحو متاهات ظالمة ومظلمة.
وهناك من يرسم خطّاً بيانيّاً مستقيماً بين العاقبيّة ورميش، فالمسرح واحد، وأبطال الرواية معروفون. والسيناريو المتنقل، المتعدد الحلقات، مقاصده واضحة، وإن العودة من الخارج إلى الداخل للتموضع، لا يمكن أن تكون من دون أثمان، وشروط مسبقة، أولها القبول بالأحجام والأوزان كما هي. وثانيها أن تكون الأرض ممسوكة، صافية الولاء، ومرتع، بقدر ما هي ساحة. وثالثها القبول المسبق بمعادلة: “ما هو لنا، هو لنا وحدنا، وما هو لكم، هو لنا، ولكم”، وبهذه المواصفات تكون الشراكة المطلوبة ضمن العيش الواحد.
والأدهى من كلّ ما تقدم، هو سؤال ملّح يطرحه الأمين العام للأمم المتحدة، ووزير الخارجيّة الإيرالندي على المسؤولين: أين أصبح التحقيق الذي يتولاّه الجيش اللبناني والأمم المتحدة ممثلة بقيادة (اليونيفيل)؟ والعاصمة الإيرلنديّة، دبلن، التي أوفدت لجنة من أهل الإختصاص، مكلّفة بمتابعة مسار التحقيقات، في ضوء ما أعلنه الوزير المولوي من أن: “الاعتداء جريمة، وليس صدفة، وليس حادثاً عرضيّاً”.
واللافت كان دخول الولايات المتحدة على الخط بعد التنسيق السريع الذي تمّ ما بين دبلن وواشنطن، إن على مستوى وزيري خارجيّة البلدين، أو على مستوى تفعيل إتفاقيات محاربة الإرهاب.
- وزير الخارجيّة الإيرلندي، رفض في تصريح له، ما صدر من نفي عن مكوّن محلّي علاقته بالإعتداء على القوة الدوليّة.
- لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشيوخ الأميركي حرّرت رسالة إلى وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، ووزيرة الخزانة جانيت يلين تدعو إلى “مساءلة الذين يقوّضون المؤسسات، وسيادة القانون في لبنان”، و”تحضّ الرئيس جو بايدن على إستخدام كل طرق الضغط، بما فيها العقوبات، لدفع النواب الى انتخاب رئيس جديد، وتشكيل حكومة بهدف تحقيق الإصلاحات الضروريّة”.
وتبقى إشارة إلى من حرّك لجنة العلاقات الخارجيّة، ليس الدفع الإيرلندي، بل خلاصة معلومات رافقت الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة، والخيارات التي قد يقدم عليها بنيامين نتنياهو تجاه لبنان، والضفة الغربيّة، وقطاع غزّة، وربما طهران ومفاعلاتها النوويّة…
عن لبنان: أقرّ أخيراً بأنه لن ينقض اتفاق ترسيم الحدود البحرية، لكن سيسعى بالمقابل، إلى منع توفير ظروف مؤاتية تمكّن لبنان من البدء باستخراج غازه ونفطه في المدى المنظور، وإنه يسعى مع شركاء آخرين كان لهم دور في الترسيم، إلى تفريغ الجنوب من القوات الدوليّة، والتوصل إلى تفاهم “تقاسم مصالح” حول “الخط الأزرق” البحري، يشكل توأم “للستاتيكو” السائد على امتداد “الخط الأزرق” البرّي، ولا يكون للولايات المتحدة أي دور، أو نفوذ، أو ضمانات!
ما يريده نتنياهو، تحرير تفاهم الترسيم من الضمانات الأميركيّة – الدوليّة، وإخضاعه لمعادلة “تلاقي المصالح” المشتركة، في الجنوب اللبناني البريّ والبحري!














