/ فاطمة جمعة /
“أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكني مُطمئن وواثق بأنني أولاً فلسطيني وأنا أفتخر، تاركاً خلفي شعباً عظيماً لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى، وأنحني إجلالاً وإكباراً لكلِّ أبناء شعبنا الفلسطينيّ الصابر”.
بهذه الكلمات خلّد الشهيد الأسير ناصر أبو حميد ذكراه في وجدان المقاومين، بعد أن أسلم روحه للسماء “مطمئناً” بأن القضية الفلسطينية بأيدٍ أمينة.
هوية عائلية نضالية
الأسير الفلسطيني ناصر محمد يوسف أبو حميد (50 عاماً)، ولد في 5 تشرين الأول 1972 في مخيم النصيرات في غزة، لأسرة لاجئة من قرية السافرية قضاء مدينة يافا، ثم انتقلت عائلته إلى الضفة الغربية واستقرت مخيم الأمعري قضاء رام الله. إنتمى إلى حركة “فتح” فكان أحد كوادرها في الانتفاضة الأولى، وهتفت الجماهير في المظاهرات باسمه شخصياً.
الشهيد ناصر، هو من بين 5 أشقاء يواجهون الحكم مدى الحياة في المعتقلات. هو شقيق الشهيد عبد المنعم أبو حميد المعروف، وشقيق الأسير نصر المحكوم بخمسة أحكام مؤبدة، وشريف المحكوم بأربعة أحكام مؤبدة، ومحمد المحكوم بمؤبدين وثلاثين عاما، وإسلام المحكوم بمؤبد وثماني سنوات.
هدم الاحتلال منزل عائلة أبو حميد خمس مرات، كان آخرها عام 2019، ومنع أمه من زيارته لسنوات، وقد أُطلِقَ على والدته لقب “خنساء فلسطين” و”سنديانة فلسطين”، كما توفي والده وهو داخل السجن، ولم يتمكن من المشاركة في تشييع جثمانه.
تعتبر هذه العائلة الوحيدة، ليس في فلسطين وحسب بل في كل العالم، التي تضم خمسة أشقاء يواجهون حكم السجن مدى الحياة في سجون الاحتلال.
اعتقلت قوات الاحتلال الأسير أبو حميد أول مرة عام 1987 وأمضى 4 أشهر، وأعيد اعتقاله مجدداً وحكم عليه الاحتلال بالسجن لمدة عامين ونصف، وأفرج عنه ليعاد اعتقاله للمرة الثالثة عام 1990، وحكم عيه الاحتلال بالمؤبد، وأمضى من حكمه 4 سنوات حيث تم الإفراج عنه في إطار المفاوضات، وأعيد اعتقاله عام 1996 وأمضى 3 سنوات في سجون الاحتلال.
وإبان انتفاضة الأقصى انخرط أبو حميد في مقاومة الاحتلال مجددًا، فعاودت قوات الاحتلال اعتقاله برفقة أخيه نصر في مخيم قلنديا، في 22 نيسان عام 2002، وتعرض لتحقيقٍ قاسٍ، وحكم عليه بالسجن المؤبد مضاعف 7 مرات وثلاثين عاما.
قاوم “سرطانين”
يعتبر الشهيد ناصر أبو حميد واحد من بين 24 حالة يعانون من مرض السرطان والأورام بدرجات متفاوتة، ومن أصعب الحالات المحتجزة داخل سجون الاحتلال. بدأ وضعه الصحي بالتدهور بشكل واضح منذ آب 2021، حيث عانى من آلام في صدره إلى أن تبين بأنه مصاب بورم في الرئة، خضع لعملية جراحية معقدة في 19 تشرين الأول الماضي في مستشفى “برزلاي” لاستئصال ورم في الرئة، وتمت إزالة قرابة 10 سم من محيط الورم، ليعاد نقله إلى سجن “عسقلان” الذي يعتبر من أسوأ السجون من حيث الظروف، الأمر الذي سبب له مضاعفات صحية وخسارة أكثر من كيلوغرامات من وزنه.
ولاحقًا وبعد إقرار الأطباء بضرورة العلاج الكيميائي، تعرض أبو حميد مجددًا لمماطلة متعمدة في تقديم العلاج اللازم له من “سرطان الاحتلال”، إلى أن بدأ مؤخرًا بتلقيه بعد انتشار المرض في جسده. ونقلت سلطات الاحتلال ظهر الاثنين، الاسير ابو حميد، وبشكل عاجل من سجن “الرملة” إلى مستشفى “أساف هروفيه”، إثر تدهور خطير جداً طرأ على حالته الصحية ودخوله في غيبوبة، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة واستشهد صباح 20 كانون الأول 2022.
وكانت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، قد حذّرت من استشهاد الأسير في أي لحظة كون الاحتلال يتعمّد ممارسة الإهمال الطبي بحقه وترك السرطان يأكل جسده دون أن تنظر في طلبات الإفراج عن الأسير بسبب ظرفه الصحي الصعب، ليلحق بركب الشهداء. كما ناشدت وزارة الأسرى والمحررين في غزة، عدة مرات، اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتنظيم زيارة عاجلة لعائلة الأسير المريض بعد نقله للمشفى مع دخوله غيبوبة تامة.
ردود فعل منددة
أثارت شهادة الأسير ناصر أبو حميد غضباً في الداخل المحتل، ولدى مختلف المقاومين، فعم الإضراب الشامل في جنين، وأعلن اتحاد المعلمين الإضراب بعد الحصة الثالثة في جميع مدارس فلسطين، حداداً على استشهاده، بالإضافة إلى مسيرة حاشدة في رام الله ضد جرائم الاحتلال.
وأعلنت حركة “فتح” في محافظات رام الله والبيرة وبيت لحم والخليل ونابلس، الحداد والإضراب الشامل، وسط دعوات لمواجهة الاحتلال رداً على الجرائم التي ترتكب بحق الأسرى الفلسطينيين. كما أعلن المتحدث باسم الحركة أنّ على الاحتلال يتحمل مسؤولية استشهاد الأسير أبو حميد، وأسفت لصمت المجتمع الدولي وعدم التدخل للإفراج عنه.
بدروها، نعت حركة الجهاد الإسلامي الشهيد أبو حميد، محملةً “العدو المجرم المسؤولية الكاملة عن اغتياله وتداعيات هذه الجريمة البشعة، في ظل تصاعد عدوانه وإرهابه بحق الأسرى”، وأكّدت أنّ “الشعب الذي يقدم الشهداء والأسرى على مذبح الحرية، سوف يستمر على طريقه”.
وطالبت الحركة المؤسسات الحقوقية والإنسانية بالوقوف إلى جانب الأسرى، وتحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه هذه الجريمة، والعمل الجاد والحقيقي على لجم عدوان مصلحة السجون، وحماية الأسرى والأسيرات من القتل المتعمد.
من جهتها، نعت حركة “حماس” و”الجبهة الديمقراطية” لتحرير فلسطين الأسير أبو حميد، وأكدتا أن استشهاده أتى جرّاء “جريمة الإهمال الطبي التي يمارسها الاحتلال المجرم”. وحملتا الاحتلال المسؤولية الكاملة عن جريمة إعدامه.
هكذا ارتقى الأسير ناصر أبو حميد شهيداً نتيجة الإهمال الطبي المتعمّد والقتل البطيء في سجون الاحتلال، ليكون قد ختم حكاية جهاد من خلف القضبان. حكايته واحدة من بين حكايات 550 أسير مريض في السجون، حيث بلغ عدد الأسرى الذين استشهدوا نتيجة سياسة الإهمال الطبي 71 أسيراً، ليرتفع عدد الشهداء الأسرى إلى 232 منذ 1967 إلى اليوم.
لم يهب ناصر المرض، كما لم يهب الموت، لقد مات المرض.. وعاش ناصر خالداً.