/ جورج علم /
يتحدّث اللبنانيّون عن الأمن، هذه الأيام، أكثر ممّا يتحدثون عن السياسة، وكأن الإستحقاق الرئاسي قد تراجع في سلّم أولوياتهم، ليصبح في المرتبة الثانيّة من حيث الاهتمام، نتيجة الفشل الذريع في انتخاب رئيس للجمهوريّة، على الرغم من المحاولات العشر المتكررّة التي قام بها مجلس النواب. ونتيجة انعدام المسؤوليّة في إنتاج حوار وطني يحاكي تحديات المرحلة المصيريّة، والعودة إلى التخندق الطائفي، والفئوي، وطغيان الخطاب المنفعل الذي يفرّق، وتغليبه على الرصين الذي يجمع.
ويتحدث المسؤولون عن الأمن، من موقع التنبيه، والتحذير، والدعوة إلى الهدوء، والانضباط، والتهديد بالإجراءات التأديبيّة التي تنتظر المشاغبين، والخارجين عن القانون. ويؤازرهم الإعلام في الترويج للاجتماعات التي يعقدونها، والتدابير التي يتخذونها، والمواقف التي يطلقونها، لنشر مناخ من الثقة، وترسيخ القناعة لدى المواطنين بأن السلطة حاضرة، ومستنفرة لحمايتهم، وحماية مصالحهم، خصوصاً بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة، والسعي للحدّ من ظاهرة إطلاق النار العشوائي، إبتهاجاً، مع ما يرافق ذلك من ممارسات مسيئة للقانون، والذوق العام.
ويتحدث السفراء والمبعوثون، عن الأمن، لكن من منطلقات مختلفة، ومن مقاربات مستندة إلى معلومات مسلوخة من أرض الواقع، ومن مسارات أصبحت معيوشة، بينها:
- غياب القضاء، والمساءلة، والمحاسبة.
- تراجع هيبة الدولة، ووهرة القانون.
- تفكك المؤسسات.
- طغيان منطق الطائفة، والفئة، والدويلة، على منطق الانتظام العام.
- الانهيار المالي ـ الاجتماعي ـ المعيشي. وتمدد مساحة الفقر، والجوع، والبطالة، وغياب الضمانات.
- وأخيرا، وليس آخراً، إزدواجيّة النظرة إلى السلاح، فما هو متوافر لدى الناس، هو سلاح متفلّت يُلاحق، ويعاقب عليه القانون. لكن ما هو متوافر لدى “الدويلات”، سواء أكانت مخيمات، أو “إقطاعيّات” مزنّرة بشعارات شعبويّة، ففي الأمر استثناءات، وحسابات مختلفة.
ويبقى للديمقراطيّة التوافقيّة، دور، وفعل تأثير، ذلك أن الأمن في لبنان، سياسيّ بإمتياز، فعندما يكون هناك حوار، وتواصل بين القيادات، وخطاب معتدل، يكون هناك أمن، واستقرار، وقانون، وعدالة، وانتظام للمؤسسات. وعندما يكون هناك تباعد، وانقسام، تصبح شريعة الغاب هي السائدة، لأنهم، ومنذ إستقلالهم، لم يتمكنوا من بناء دولة القانون والمؤسسات، بل دولة المزرعة، “وكل مين إيدو إلو!”، وهذا ما يفتح هامشاً عريضاً أمام الاستغلال الأمني لأغراض سياسيّة، أو ما يعرف بمعادلة “الاستثمار بالأمن، للكسب في السياسة”، خصوصاً في هذه المرحلة التي يقف فيها الوطن أمام منعطف مصيري خطير.
إن إذلال الناس أمام الصيدليّة، والمستشفى، والمصرف، والفرن، ومحطة الوقود. إن إفقارهم، وتجويعهم، ونهب مدّخراتهم، وجنى عمرهم، وإرغامهم على تسديد فاتورة الموّلد الكهربائي بالملايين شهريّاً، سيدفع بهم نحو الإحباط، واليأس، والفوضى، وتزايد أعمال السطو، والنهب، والسرقة، وقطع الطرق، وإقامة حواجز مسلّحة متنقلة للإستئثار بالمواطن الأعزل، في ظل ظاهرتين لافتتين: إقتناء السلاح الفردي بحجّة الدفاع عن النفس. وتفشّي المظاهر الميليشيويّة، بحجة تحقيق “الأمن الذاتي” في العديد من المناطق.
ووسط هذه الأجواء الملبّدة بغيوم سوداء، يقدّم السياسيّون ـ بفعل تقاعسهم – “صك توكيل” للخارج كي يقدم على تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه. لقد أكدوا، للقريب قبل البعيد، بأنهم عاجزون عن تحقيق الإصلاحات التي ينادي بها صندوق النقد الدولي، ويرفضون الحوار، وعاجزون عن انتخاب رئيس للجمهوريّة. وعاجزون عن صدّ الانهيار المالي، والاقتصادي، والاستشفائي، والتربوي، فيما نجحوا بامتياز في إتقان الفساد، والصفقات، ونهب المال العام، والاستثمار في النكد السياسي، وشدّ العصب الطائفي، والفئوي، والخطاب التخويني. والمشكلة أن الخارج المهتم، غير مكترث، لأن الأولوية عنده هي لمعالجة شؤون ناسه، ومجتمعه، والتصدّي بقوة للتداعيات الأمنيّة، الغذائيّة، الإجتماعيّة، والمعيشيّة التي خلّفتها الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى إنخراطه في صراع المحاور حول مستقبل الطاقة، والنفط، وسباق التسلّح.
هناك دول لها مصالح حيويّة في لبنان، ويهمّها ضبط إيقاعات هذا البلد بما يتوافق ومصالحها. ولكن طالما أن اللبنانييّن غير مهتمين بانتخاب رئيس، أو غير قادرين، وطالما أنهم يرفضون تحقيق الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي، ويرفضون الحوار والتلاقي لإنقاذ بلدهم، فإنهم عاجزون أيضاً عن توظيف المجتمع الدولي للحلول مكانهم، ومعالجة خلافاتهم ومشاكلهم الداخلية، في الوقت الذي يختارونه، والحلول التي يريدونها متطابقة ومواصفات مصالحهم، وفئوياتهم.
إن الخارج لن يترك لبنان. هناك أكثر من ثلاثين دولة لها حضور عسكري في الجنوب، وشكّلت كتائبها مجموع قوّة حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) العاملة تحت مظلّة تنفيذ القرار 1701. هناك بعثات أمميّة، ودوليّة بالعشرات، تتقدم مجالس المسؤولين، وقادة الأحزاب، والفعاليات، وتلّم بكل شاردة أو واردة. وهناك من يؤكد في مجالسه الخاصة، بأن لبنان، بما هو عليه، تحت مظلة دولية متابعة، ومدركة لطبيعة الأمور، وتطوراتها، وهناك توجّه جدّي للاستثمار في الأمن في زمن الفراغ السياسي، بهدف معالجة بعض الملفات التي لها بعد إقليمي، وتشكّل عوائق في تنفيذ المخططات المرسومة لدول المنطقة، والتحالفات الإقتصاديّة الجديدة فيها، وفي المقدمة اللجوء الفلسطيني، والنزوح السوري، والسلاح الذي أخلّ بالتوازنات الداخلية الدقيقة.
وإذا كان لا بدّ من تسوية تنتج رئيساً للجمهوريّة، فإن اللبنانيين، بفضل تخاذلهم، قد تركوا الأبواب مشرّعة أمام الخارج كي يتفرّد بالتوقيت، وبمواصفات التسوية، ليصار قي ضوئها الى انتخاب رئيس، ووضع اللبنانيين أمام واقع جديد، ربما استعمار بقفّازات حريريّة!