/فاطمة جمعة/
مضى شهران على ترسيم الحدود البحرية، وحتى اليوم لا نتائج ملموسة لهذا الترسيم سوى التصريحات.
يكاد هذا الإنجاز التاريخي، يضيع بين المصالح الخارجية والتراخي والفساد المستشري. فقد نصّ الاتفاق على شروع شركة “توتال أنيرجي” بالتنقيب عن الغاز فور إعلان الترسيم. وأعلنت “توتال” مؤخراً أنّها ستعمل على بدء التنقيب في البلوك رقم 9 اعتباراً من الربع الأول من العام 2023.
لكن حديث الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الأخير أن استفادة لبنان من الغاز لن يحصل قبل أربع سنوات، يحبط التفاؤل ببدء التنقيب. فقد أعطى هوكشتاين إشارة سلبية إضافية، من خلال العودة إلى “نغمة” ربط الاستفادة من الغاز بالإصلاحات، والتي لخّص البنك الدولي لائحتها بثلاثة عناوين، الكهرباء والقضاء والشراء العام.
اعتادت الولايات المتحدة على استخدام “شماعة” الإصلاحات لتعطيل أي تقدم للبنان، بل أي متنفس يكسر حصاره، ذلك على غرار وعود السفيرة الأميركية دوروثي شيا باستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، وأيضاً إعلان “توتال” اكتشاف كميات تجارية في البلوك رقم 4 ثم تراجعها عن هذا الكشف. جميعها دلائل على تحكم السياسة الأميركية بشركات النفط ومصيره في الدول.
قبل أسبوع، وقّع وزير الطاقة وليد فياض قراراً بناءً على توصية هيئة إدارة قطاع البترول، قضى بتمديد مهلة تقديم الطلبات للاشتراك في دورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية الى 30 حزيران 2023 ضمنا. إلا أنها ليست المرة الأولى التي تُقرر فيها وزارة الطاقة تمديد المهلة المعطاة للتراخيص، بعد أن كانت تنتهي في 15 هذا الشهر، الأمر الذي يزيد احتمال ضياع فرص إستثمار كبيرة إثر التمديد المتكرر. وفي ظل انعدام فرصة تنفيذ الإصلاحات والفراغين الرئاسي والحكومي والشلل البرلماني، هل أصبح الحديث عن الغاز مرهون بالإصلاحات؟ وحيث أن السياسة تهيمن على أصغر الملفات، فكيف بحجم ملف الثروة النفطية؟
خلفيات الترسيم
يُعتبر التفاوض مع العدو، من أشرس أنواع التفاوض بين طرفين، اللذين يجمعهما تاريخ مشتعل بالصراعات والحروب والدماء. فجوهر العداء تجاه “إسرائيل”، يأخذ بعداً دينياً وقانونياً، حيث أن التعامل معها “محرّم” شرعاً، وتحكمه أطر يحاسب عليها الدستور اللبناني. على عكس مفاوضات فيينا بين الولايات المتحدة وإيران كمثال، اللتين تختلفان بالسياسة والإيديولوجيا، فيما التعامل بينهما لا يشكل “تطبيعاً”.
في 13 تشرين الأول 2022، تم الإعلان عن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي، كخطوة أقل من اتفاق وأكثر من تفاهم، فالمعنى اللوجستي للترسيم، هو تحديد كل طرف إحداثياته الجغرافية طولاً وعرضاً، وإيداعها لدى الأمم المتحدة لتشريعها دولياً، وحيث أن كيان الاحتلال ليست لديه حدود واضحة في الأمم المتحدة، بل يتمتع فقط برعاية أميركية ـ بريطانية ـ فرنسية، ويبني عليها “شرعيته” الدولية. من هنا، كانت الحساسية والدقة في مراحل المفاوضات غير المباشرة، لا سيما وأن لبنان كان قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في فخ التطبيع. غير أن فخاً آخر يحدق بلبنان، وهو المتعلق بالغاز المركون أعماق البحر، فإذا كان الترسيم إنجاز بالغ الأهمية، فلا قيمة له دون رؤية استخراج الغاز.
اتفاق الإطار
بالعودة إلى أصل فكرة الترسيم البحري مع “إسرائيل”، نجد أن التفاوض بدأ فعلياً مع قبرص عام 2007، إلا أنه لم يكتمل، وعدم الإكتمال هذا أوجد الإشكال حول الحدود الجنوبية مع العدو الإسرائيلي. أول من تنبه لخطر هذه المسألة هو رئيس مجلس النواب نبيه بري، وقد سجّل عدة مواقف على مدى السنوات السابقة، نستحضر منها حديثه في 20 تموز 2012: “أمضيت حياتي اقارع اسرائيل على السنتيمتر والإنش، هل من المعقول ترك هذا الموضوع حتى من ناحية سيادية. طلبت من اليونيفيل، وبموجب القرار 1701، ان من واجباتها رسم الحدود البحرية، فامتنعوا. حصل تشابك سياسي لجهة أن هذا الأمر خطير للغاية لأن لا فارق بين الحدود البحرية والبرية، أنتم وضعتم الخط الأزرق، في البر، ضعوا الخط الأبيض في البحر الأزرق، تبين في النهاية أنه لا بد من إدخال الأميركيين وعين السفير هوف وكانت أول خطوة من السفير هوف الذي قال ان للبنان الحق بـ530 كلم مربعاً من أصل 850 كلم “.
لماذا استمر التفاوض 10 سنوات؟
كانت هناك معارضة دولية شديدة على ترسيم الحدود البحرية، وكان كلما اقترح الرئيس بري الشروع بالمفاوضات، قوبل بالرفض والتأجيل و”التمييع”، على أنه أمر حساس وخطير لا يريد أحد الدخول بسجالاته، مع العلم بضعف احتمال نجاح الترسيم في ظل العداء المحتوم بين الطرفين وخشونة المفاوضات التي تخللتها مراحل توقف وانكفاء، ولا يمكن التغاضي عن احتدام العقد المنصرم بأحداث الجماعات الإرهابية والربيع العربي وسلسلة الاغتيالات، والحروب المستمرة على جبهتي غزة واليمن… كلها عوامل حالت دون الحديث حتى عن الترسيم، وجعله عبئاً إضافياً الجميع بمنأى عنه. رفض الأميركيون إحداثيات لبنان على مدى هذه السنين، وهي نفسها التي أودعها اليوم لدى الأمم المتحدة، حينها قال ديفيد ساترفيلد، نقلاً عن مصدر معني بالمفاوضات: “صفر رح تاخدوا.. يا بتاخدوا 5% يا ما بتاخدو شي”.
وبعد خمس جولات فاشلة ودون تحقيق أي نتيجة سوى الشرخ والتمسك بسرقة حقوق لبنان، وحيث أن نقطة واحدة بين البر والبحر تتطلب شهراً تقريباً من التفاوض ـ ليدرس الأطراف الأربعة كل نقطة ـ عاد آموس هوكشتاين لتولي الملف في تشرين الأول 2021، الذي ارتأى تبريد الأجواء وعمل على جولات مكوكية بين لبنان وأميركا، فاستطاع تخفيض الحد الأقصى للربح لدى أميركا، وإقناع العدو بالتنازل عن “سلبطته” على مياه لبنان وثروته.
لماذا تحرك الملف في الشهرين الماضيين؟
إن تعطّل امدادات الغاز الروسي الى أوروبا إثر الحرب في أوكرانيا، وارتفاع سعر برميل الغاز لـ50%، هي لحظة تاريخية دفعت “إسرائيل” للإنصراف عن نهج العدوانية بالتفاوض والإسراع بالترسيم، على اعتبار أنها قطعت شوطاً في مراحل الاستكشاف والتنقيب عن الغاز، غير أنها لا تستطيع البيع والتصدير للدول من دون وجود حدود رسمية، ما أوصل إلى التنازل عن الحدود التي تدّعيها لإنهاء هذه المهمة.
كان العدو الصهيوني يريد فعلاً إنجاز الترسيم بأسرع وقت، بهدف تهدئة الأجواء والتخفيف من تشنج الساحة السياسية لديه في ظل انتخابات الكنيست، فكانت الأولوية للترسيم قبل الدخول في اضطرابات الانتخاب ونتائجه وصولاً لتأليف حكومة وما يتبعها من تداعيات في الداخل المحتل. هنا تشير المصادر المعنية بالمفاوضات، إلى وجود تكهّن مسبق من الجانب اللبناني والإسرائيلي أن بنيامين نتنياهو سيفوز ويعود للحكم، وهو الأمر الذي أثاره الرئيس بري في لقائه الأخير مع هوكشتاين في عين التينة، حيث ضمن تأكيداً أميركياً بعدم مساس نتنياهو بالاتفاق والتعرض له.
باختصار، استغل لبنان هذه اللحظة التاريخية وانتزع حقوقه في الترسيم بعد عقدٍ من العناد الدولي، واستفاد من كل الظروف لطي صفحة من سلسلة الحروب مع العدو الإسرائيلي. فكانت المقاومة السباقة في استثمار هذه اللحظة، حين أنذر الرئيس بري بخطابه للانتخابات النيابية في لبنان، العدو من المماطلة بالمفاوضات، كذلك تحذير السيد حسن نصرلله من التصعيد واستخدام السلاح. هكذا نجح لبنان بالإبقاء على إحداثياته وعدم تصحيحها، فيما التزمت “إسرائيل” تصحيح إحداثياتها وتعديلها وفق ما فرض لبنان وما أفضى إليه اتفاق الترسيم. كما أن الشخصيات السياسية والدبلوماسية التي باركت للبنان، هي نفسها التي تعنّتت رفض الترسيم قبل سنين، ليأخذ بذلك بعداً سيادياً بامتياز يتجلى بإظهار لبنان منطقه السليم والقوي بمقابل إظهار الاحتلال منطقه العدواني. النجاح هذا لا يكتمل دون الاستفادة من الغاز، ففي بلد مقيّد بالتدخلات الخارجية والتبعية السياسية، هل يمكن القول إن لبنان تعرض للخديعة؟