الأشرفية في حمى شبابها… “كرمالك لاعمل ناطور”

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

الأشرفية البداية بداية البشير الأشرفية الحكاية حكاية التحرير… هكذا كانت منذ اليوم الأول، منذ بدايات الحرب اللبنانية، منذ أيام البطش السوري، وهكذا تستمرّ. الأشرفية قررت أن تواجه وفعلت. واجهت على الدوام وصمدت. البقاء صمود. وقرار عدم توضيب الأمتعة والرحيل صمود. والشيء الوحيد الذي تعرفه الأشرفية “يلي خلقت قلعة ورح بتضلّ” انها مليئة بالجروح لكنها ما زالت واقفة على قدميها في وجه السارقين والفاسدين والطامحين لتطويعها وعيون ابنائها تبقى “عشرة عشرة”.

ثمة سرّ فيها. كل الأحوال في البلاد تتغير إلا في الأشرفية التي فيها سرّ لا يعرفه إلا أبناء الأشرفية. هم “ذوات” في التقسيم الطبقي لكنهم مقاومون في الوقائع والأزمات. منذ ايام صدرت كلمة سرّ من مكان ما بتوجيه الأنظار الى الأشرفية تحت عنوان التأسيس الى “كانتون فئوي” والعمل لتحقيق حلم الدويلة الشرقية تحت عنوان: الحكم الذاتي. غفل السارحون في الأوهام عن كل الأحداث الأمنية في البلاد وكل بؤر الحكم الذاتي في المناطق وكل الرجال الذين يحمون مناطقهم – بغياب الدولة – من أقصى لبنان الى أقصاه ووجهوا لكماتٍ مباشرة الى الأشرفية. لا، الأشرفية لم ترِد يوماً حكماً ذاتياً وكيف تقبل به ورمزها، قائدها، البشير، نادى بدولة الـ 10452 كلم2 لا بدولة المزرعة. لكن، هل هناك من قرّر اليوم التصويب على الأشرفية من أجلِ حجب النظر عن سواها؟

يبحث اللبنانيون عن ما – ومن – يحميهم في الأيام السوداء هذه. أهل الأشرفية من هؤلاء. من حقّهم ذلك. من حقّ الأشرفية أن تطلب الأمن من الدولة، لكن حين تتخاذل الدولة عليها أن تبحث عنه ذاتيا “فيوم انقطعت كهرباء الدولة ركّبت الأشرفية مولدات وحين تفشت السرقات قررت أن تنشر عيونا لها في الليالي الدامسة”. هذه هي كلّ القصّة.

يومياً، نسمع من متربصين: وضعت الأشرفية تمثالاً للعذراء. رفع شباب الأشرفية الصليب. رفعوا شعارات. لبست الأشرفية اللون الزيتي… وكأن البلاد “عال العال” ولم يبق أيّ شيء يتكلمون عنه إلا الأشرفية. وكأن الأمن ممسوك واللصوص انقرضوا وأهل البلاد ينامون وأبواب بيوتهم مفتوحة. يرنّ هاتفنا. القلق كبير في منطقة البترون، ساحلاً ووسطاً. أهلها يصرّون على الحماية الذاتية لمنطقتهم بعد تفشي السرقات. كل المناطق في الهوى سوا. نصغي الى اثنين يتحدثان باسم منطقة المولى: نحن أولاد منطقة الشياح بعدما زادت السرقات اضطررنا الى الحلول مكان الدولة الغائبة. الأمن الذاتي كان الحلّ”. حواجز العناصر الصفر تظهر كل مساء في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت “فأمن الضاحية الجنوبية والمناطق الشيعية فوق كل إعتبار”…

الأمن الذاتي مرفوض. الأشرفية ضدّه. قبل أن يفجروا جسد بشير تحدث، بلسانه وقلبه وعقله، عن الدولة القوية، عن مساحة وطن، مردداً: نريد دولة لا مزرعة. مات، قُتل، قتلوه وراحوا يعبثون بالدولة والحدود والأمن والأمان. وفلت الزعران. واستمرّت الاشرفيه تطالب بالقانون والأمن والأمان. فجروا الأشرفية بدل المرة مرات لكنها استمرّت بنت الدولة. فهل فقدت الأشرفية ثقتها بوجود الدولة فقررت أن تحمي ذاتها بذاتها؟ ألا يتعارض ذلك مع إرادة البشير؟

قبل ثلاثة عشر عاماً تأسست جمعية الأشرفية 2020 ( تسمية رؤيوية) من أجل العمل الدؤوب لتبقى الأشرفية واحة أمل وحياة و”أحلى وأحلى” على كل الأصعدة. أسسها نديم بشير الجميل. فاشتغلت في البدايات في المجالات الثقافية والتربوية والإقتصادية والفنية. ومنذ العام 2019 تبدلت طبيعة عمل “الأشرفية 2020” بعدما زادت حاجيات المنطقة وتبدلت الأولويات. ويقول أمين سرّ الجمعية أكرم نعمه “نحن لسنا جمعية خيرية بل شبكة تضامن مع العائلة الكبيرة المكونة من كل عائلات الأشرفية”.

ثلاثة عشر عاماً من الأنشطة النموذجية لم ينتبه إليها أحد. وفي السابع من تشرين الثاني، بعدما رفع أهالي الأشرفية “العشرة” أمام سيل السرقات والإعتداءات اليومية هبّ الشباب لحماية بيوتهم وعائلاتهم وأطفالهم. وجلسوا معاً. عصروا الأفكار والأدمغة وخرجوا بحلّ، أو لنقل بخطوة قد تُشكّل حلاً: “بسبب انعدام الأمن السائد (السطو والنشل وما إلى ذلك) قررت الأشرفية الشروع في “ساعة الحيّ” المتكونة من شبكة من 120 شاباً من الأشرفية يقومون بدور “الملاك الحارس” من الساعة السادسة عصراً حتى الساعة السادسة صباحا”.

ممتاز. كل لبنان بحاجة الى ملائكة ونواطير وعيون في زمن الفلتان. لذا أتت الفكرة، من التجار والأغنياء والقلقين والخائفين، بتوفير بعض الحماية، بالحدّ الأدنى، من خلال شباب الأشرفية أنفسهم، مقابل رواتب جدّ بسيطة، من اللحم الحيّ. مئة وعشرون شاباً يشاركون في حماية العديد من شوارع الأشرفية منذ حوالى الشهر. عدّتهم “لمبة” وعصا. مهمتهم أن يفتحوا عيونهم جيداً فإذا شاهدوا رجلاً يجول ويصول في مكان ما، بانتظارِ لحظة ما، واستمرّ في ذلك وقتاً طويلاً، يتصلون بمسؤولٍ عنهم، وهو يتصل بدوره بالمراجع الأمنية لتنبيهها. ثمة تنسيق بين “الأشرفية 2020” والمراجع الأمنية. القوى الأمنية، مثلها مثل البلدية، والوزارات، ترى بعينيها ولا تستطيع فعل شيء، على قاعدة “العين بصيرة واليد قصيرة”.

ما دامت المسائل هكذا فلماذا قامت الدنيا ولم تقعد على الأشرفية بالذات، دون كل المدن والقرى، التي قررت إعتماد الأمن الذاتي؟

أكرم نعمة يبدو حانقاً جداً، ليس فقط على كل الكلام بحقّ الأشرفية، بل على القلق الذي يجتاح أهالي المنطقة التي يحب. ويقول “تسمية الأمن الذاتي في ذاتها لا تصحّ في ما نقوم به. فالشباب لا يملكون القدرة إلاّ على التبليغ، أو في أسوأ الحالات ضرب المعتدي بعصا لردعه” ويشير الى مكيفين في الجوار سرقا للتوّ. نتابع الإصغاء إليه وهو يقول “الشباب أشبه بنواطير ويمنع عليهم حتى سؤال، اي كان، عن اسمه. وإذا شكّوا بأحد يُبلّغون عنه. لكن، ما استغربناه، تصوير الأمر وكأنه مؤامرة وحبك قصة من قصص جيمس بوند. نحن، كل ما أردناه، هو أن نحمي حالنا. أسماؤنا معروفة. مكان سكننا معروف. شبابُنا معروفون. نحن نحرس أنفسنا. نحن أولاد عائلات. والله، والله لا أعرف أنطوان صحناوي ولم أره في حياتي. ويأتي من يقول أننا ننسق معه”.

البلد على “صوص ونقطة” والمخيلات تسرح أحيانا أكثر من اللصوص. نتابع الإصغاء الى أمين سر “الأشرفية 2020” وهو يجزم “الأشرفية ليست أرضاً سائبة. ولا ولن نقبل أن يهين أيّ كان كرامة عائلات الأشرفية. السارقون يأتون “محششين” وشباب الأشرفية ليسوا كوكو وزوزو وتوتو. يرفض شباب الأشرفية أن يروا بناتهم وأخواتهم وزوجاتهم يُسرقون بلا رادع. هؤلاء يخافون على أولادهم” ويستطرد “نحن نحبّ الدولة ونموت بالدولة لذلك نساعدها على استعادة هيبتها. نحن طلبنا منها أن تعتبرنا مثل “الفزاعة” التي توضع جنب العريشة كي لا تأتي وتأكلها الطيور. البارحة دخلوا على والدي وسرقوه”.

على الرغم من كل ما نراه، حظّ أهالي الأشرفية “حلو”. عن ذلك يقول نعمه “لدينا فصيلة قوى الأمن الداخلي في الاشرفية النموذجية. إنها افضل من مخافر باريس ومونتريال. ودورنا أن ننبهها الى وجود أي شكّ بشخص ما”. ويستطرد: “أكبر مشكلة إجتماعية نعاني منها الآن هي السرقات. فلماذا يرون أننا نبالغ إذا قررنا فتح عيوننا لردع السارقين؟ الكلبة تحرس ابنها. الهرة تحرس أولادها. لا، لا يمكن إتهام أي طرف بأنه يؤسس الى أمن ذاتي إذا كان هدفه، كما كل الآخرين، حماية أطفاله”.

أولاد الأشرفية “خواجات” وأوادم. وليست هوايتهم الجلوس على الطرقات ليلاً لكنّ للضرورة أحكاماً. والضرورة دفعتهم الى أن يكونوا “عيون الأشرفية”.

نصغي الى إمرأة من الأشرفية. هي نحاتة ومرتاحة مادياً، تدعى رندا نعمه، قررت قبل شهرين الإنتقال من منطقة الصيفي في الأشرفية الى منطقة الزلقا. تركت كل شيء في الأشرفية وغادرت الى منطقة بلديتها تعمل ليل نهار. تخبرنا “أن في الزلقا كل خمسة أمتار يوجد شرطي بلدي” وتستطرد “البارحة أتى شاب على دراجة نارية وضرب سيارة إبني في الأشرفية وطالبه بعطل وضرر. أفكار “الحراميي” لا تعدّ ولا تحصى”.

السرقات في منطقة الأشرفية كثيرة. الوضع في كل لبنان خطير. لكن، ربما لأن الاشرفية لها طابعها الخاص، في رؤوس من يحقدون عليها، تبقى الحصرمة التي يحاولون إقتلاعها. لكن، الأشرفية مرة جديدة تعلن: لا للأمن الذاتي. نعم للدولة. نعم للامركزية.

مرجع أمني يستغرب التركيز على “عيون الأشرفية” وغضّ النظر عن سواها ويقول “يرتكز الأمن على معلومات من مصادر شتى، يتم التقاطع بينها، وتحليلها، لذلك هؤلاء الشباب الذين يحمون مناطقهم وشوارعهم قد يكونون مثل المخبرين الصالحين. إنهم، خصوصاً في مثل هذه المرحلة، حاجة”.

وماذا بعد؟

المطلوب دولة. المطلوب تطبيق مفهوم الدولة من خلال كل مؤسساتها، التي بلغت اليوم ذروة الاستسلام وما عاد يمكن الاستمرار بهذه الفوضى والاسترخاء حيث الجريمة مسموحة والخطف مبرر وقطع الطرقات متاح والسرقات “باللوج” والقتل مباح، ما عاد مسموحاً ان يقتل أحدهم آخر إذا لم تستوِ حتى الليمونة على الشجرة!

هناك أمن ذاتي؟ فلنفترض أن ذلك حقيقة في الأشرفية. فالمطلوب الآن وبإلحاح: دولة. حين تكون الدولة لا يكون هناك امن بالتراضي، ولا مسلحون، تحت اي تسمية كانت، يستولون على مهام الدولة والجيش. الدولة يفترض ان تحرص على فرض الامن بذراعها. لا أمن ذاتياً مطلوب ولا أمن بالتراضي. الأمن بالتراضي معناه: لا أمن! والجيش هو وحده ذراع السلطة السياسية المسلح. الأمن بالتراضي- أو الذاتي- مشكلة كبيرة وما نشهده ويتعاظم ويمتد تحت تسميات اشكال الوان يجعلنا ننعي الدولة ونتمنى، وعفوا من بشير، أقله مزرعة بدون شبيحة ولا مستهترين بحقوق البشر!

وتبقى كلمة للأشرفية، لأهالي الأشرفية: إرفعوا الصليب عالياً أمام بيوتكم فهو، بعكس الكارهين والرافضين، علامة قوّة.