أميركا تُخيّب ماكرون: هذا هو الواقع… فارْضوا به

جريدة الأخبار

سعيد محمد

حظي إمانويل ماكرون باستقبال دافئ من الإدارة الأميركية في إطار زيارة الدولة التي قام بها إلى الولايات المتحدة، وسَمع من مُضيفيه إشادات بفرنسا باعتبارها «شريكاً ثابتاً للولايات المتحدة في الدفاع عن القيم الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان العالمية». لكنه، وفق ما رَشَح عن المحادثات، عاد محمَّلاً بوعود شديدة العمومية، بخصوص الشكاوى الاقتصادية المريرة للأوروبيين حول أسعار الطاقة المرتفعة، وجملة السياسات الحمائية التي تبنّتْها واشنطن أخيراً، ويُخشى من أن تكون تأثيراتها كارثية على الصناعات في القارّة القديمة. في المقابل، فقد كُلّف الرئيس الفرنسي بفتح قناة أوروبية للتواصل مع روسيا، بعدما أعلن جو بايدن انفتاحه على مبدأ إجراء محادثات مع فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب، ووجّه أيضاً بالعمل على تمتين الدعم الأوروبي لسياسات العداء تجاه الصين.

يمكن القول إن الإنجاز الوحيد للرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، من زيارته للولايات المتحدة، والتي استمرّت ثلاثة أيام وانتهت أمس (الجمعة)، هو إعادة الحرارة إلى العلاقات بين البلدَين، بعدما وصلت في وقت سابق إلى درجة اتّهام ماكرون، الأميركيين، بالخيانة، واستدعائه سفير بلاده لدى واشنطن بسبب استبعاد باريس من «اتّفاق أوكوس» الأمني الذي يهدف إلى مواجهة القوّة الصينية الصاعدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، والذي ألغت أستراليا على إثره طلبية غوّاصة كبيرة من مجموعة «نافال» الفرنسية لمصلحة مُورّدين أميركيين وبريطانيين. وفي هذا الجانب، فإن ماكرون – الذي اصطحب معه زوجته بريجيت – حظي باستقبال شخصي ورسمي دافئ من قِبَل الرئيس جو بايدن وإدارته، اللذين احتفلا بالضيفَين بحفاوة بالغة؛ فأُجريت لهما مراسم ترحيب رسمي في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، شاركت فيها قائمة طويلة من كبار المسؤولين الفرنسيين والأميركيين، بالإضافة إلى آلاف المدعوّين. وتضمّن البرنامج المتّسم بالأبّهة منْح أوسمة عسكرية وهدايا شخصية وتحية من 21 طلقة بندقية، وعزفاً للنشيدَين الوطنيَين لكلا البلدين، واستعراضاً لحرس الشرف. وفي مؤتمر صحافي للزعيمَين، وصف بايدن، فرنسا، بأنها «أقوى الشركاء وحليفنا الأكثر قدرة»، وتقصّد أن ينبّه إلى أن «إيمانويل أصبح صديقاً شخصياً أيضاً، فضلاً عن كونه رئيساً لذلك البلد العظيم»، فيما سمع الرئيس الفرنسي من كلّ مُضيفيه إشادات بفرنسا باعتبارها «أقدم حليف للولايات المتحدة، وشريكها الثابت في قضية الحرية»، وتنويهات بوقوفها الحازم في خندق واحد مع الأميركيين ضدّ «الحرب الوحشية» التي تشنّها روسيا على أوكرانيا، «للدفاع مرّة أخرى عن القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان العالمية».

لكن بغيْر هذه المراسيم الرمزية، فإن ماكرون سيعود إلى باريس خالي الوفاض تقريباً بشأن المظالم التي حَملها إلى الأميركيين، والتي تهدّد، وفق ما قال هو نفسه، بشرْخ عبر الأطلسي لا يمكن جسْره. ويشكو الأوروبيون من أنهم دفعوا ثمناً باهظاً لتحالفهم مع واشنطن في صراعها ضدّ موسكو، من خلال تخلّيهم عن مصادر الطاقة الروسية الرخيصة التي وفّرت لعقودٍ المنصّةَ لازدهار الصناعات الأوروبية ورفاه المواطنين، وانتقالهم إلى الشراء من الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج العربي بأسعار مضاعَفة. وتحدّث ماكرون، علناً، عن أن بيع الولايات المتحدة لبلاده الغاز بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تحصل عليه فرنسا من روسيا، سلوك لا يليق بالأصدقاء ورفاق الخندق الواحد. وبينما تُجاهد الحكومات الأوروبية وبنوك القارة المركزية للتعامل مع الارتفاعات المتوالية في تكاليف الطاقة والتضخّم غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، تلقّى حلفاء الولايات المتحدة طعنة نجلاء منها، بعدما أقرّ الكونغرس قانون خفض التضخّم وحوافزه البالغة قيمتهما حوالي 369 مليار دولار لصالح تمويل تحوُّل الصناعات الأميركية إلى الحلول الخضراء، بما في ذلك دعم السيّارات الكهربائية المُصنَّعة في الولايات المتحدة، والإعفاءات الضريبية السخيّة لتعزيز صناعات مِن مِثل الطاقة المتجدّدة والبطاريات؛ وأيضاً قانون الرقائق الذي يقدّم ما مجموعه 52 مليار دولار على شكل إعانات وإعفاءات ضريبية لأيّ شركة عالمية تختار إنشاء عمليات جديدة أو توسيع العمليات القائمة لصناعة الرقائق على الأراضي الأميركية. ومن شأن هكذا قوانين أن تتسبّب بمنافسة غير عادلة للصناعات الأوروبية، وأن تُفقد القارّة القديمة جاذبيّتها للاستثمارات الرأسمالية، وتُسقطها في لجّة ركود اقتصادي مضاعَف.

فرضت الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيين ابتلاع السكّين لضمان وحدة الصفّ إزاء روسيا

وعلى رغم تغليفه شكاوى أوروبا بكثير من الديبلوماسية، فإن ماكرون كان واضحاً في حديثه في مقرّ السفارة الفرنسية في واشنطن عن أن «الخيارات الأميركية في الأشهر القليلة الماضية، وبخاصة القانون الجديد لخفض التضخّم والتحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة (الخضراء) من شأنها تفتيت وحدة الغرب»، مشدّداً على «حاجة الحلفاء الماسّة إلى تنسيق وإعادة مزامنة أجندات سياساتهم»، محذراً من أن دعْم الشركات الأميركية سيأتي قطعاً على حساب الصناعات الأوروبية. ونقلت الصحف عن طرف حضر في وقت سابق مأدبة غداء مغلَقة عُقدت على شرف الضيف الفرنسي في الكونغرس مع مديرين تنفيذيين ومشرّعين، وصْف ماكرون القانون الجديد بأنه «عدواني للغاية تجاه شركاتنا»، وقوله لمُستضِيفيه: «قد يحلّ هذا القانون مشاكلكم، لكنه سيجعل مشاكلنا أسوأ بكثير»، وتَوقّعه أن «يفقد الآلاف وظائفهم عبر الاتحاد الأوروبي».

ردُّ بايدن في مؤتمر صحافي على ذلك جاء قاسياً، إذ قال إنه «لا يقدّم أيّ اعتذار عن القانون الجديد»، باعتباره ضرورياً لتعزيز قطاع السيّارات الكهربائية والمساعدة في مكافحة تَغيّر المناخ في الولايات المتحدة، ودعا الأوروبيين إلى التوصّل إلى نظام مماثل خاص بهم. وأشار جون بوديستا، كبير مُستشاري البيت الأبيض لشؤون الطاقة النظيفة، بدوره، إلى أن «الولايات المتحدة واثقة من أن قانون خفْض التضخّم لا ينتهك أيّ قواعد لمنظّمة التجارة العالمية». ومع هذا، فقد أبدى الرئيس الأميركي استعداده لتقديم تنازلات لتهدئة مخاوف الاتحاد الأوروبي، من دون أن يوضح ماهية تلك التنازلات، قائلاً: «هناك تعديلات يمكننا إجراؤها، يمكن أن تسهّل بشكل أساسي على الدول الأوروبية، لكن هذا لا يزال بحاجة إلى دراسة». ولاحقاً، أعلن الزعيمان أنهما كلّفا فِرق عمل مشتركة بإجراء «مداولات فنّية» حول إجراءات مخفَّفة ممكنة. وبحسب خبراء، فإن أحد الخيارات هو أن تضيف أميركا، التكتّل الأوروبي، إلى قائمة الدول التي يمكن أن تكون منتَجاتها مؤهَّلة للحصول على إعانات، على غِرار الطريقة التي عُوملت بها المكسيك وكندا. لكن جون كيربي، المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، امتنع عن تأكيد وجود أيّ مقترحات محدَّدة، فيما أصرّ الرئيس الفرنسي على أنه يزور الولايات المتحدة «لا لطلب إعانات، ولكن لمناقشة عواقب التشريع الأميركي». أمّا بشأن انتقادات ماكرون لأسعار إمدادات الطاقة، فقد ردّ عليها أحد المسؤولين الأميركيين بأنه «يتمّ تصدير الغالبية العظمى من الغاز الطبيعي المسال الأميركي إلى أوروبا من خلال عقود شفّافة طويلة الأجل مع شركات تجارة الطاقة الأجنبية، بما في ذلك الشركات الأوروبية».
وبينما فرضت الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيين ابتلاع السكّين لضمان وحدة الصفّ إزاء روسيا، إلّا أنها لا تزال ترى في مواجهة الصين أولويتها الاستراتيجية الرئيسة، وهي تريد من الاتحاد الأوروبي أن يصطفّ معها في ذلك، وبخاصة فرنسا، بعد أن اختار الألمان المحافظة على علاقاتهم الاقتصادية مع بكين كما ظلّت خلال العقدَين الأخيرين، فيما تغرق بريطانيا بشكل متزايد في مصاعبها الداخلية. وكان وزراء خارجية «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) قد ركّزوا نقاشاتهم، في اجتماعهم هذا الأسبوع في بوخارست، على سُبل مواجهة تعاظُم القوّة العسكرية والتكنولوجية للعملاق الآسيوي الصاعد، في حين سافر مسؤولون أميركيون كبار إلى أوروبا في الأسابيع الأخيرة للضغط على مسؤولي الاتحاد الأوروبي وقادة الشركات، ودفْعهم إلى الانضمام إلى الولايات المتحدة في فرْض قيود مشددة على صادرات تكنولوجيا الرقائق وأشباه الموصلات إلى الصين، بحجّة أن وصول الأخيرة إليها يشكّل تهديداً للأمن القومي.

على أن ألمع لحظات زيارة ماكرون، جاءت خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الأميركي في واشنطن العاصمة، حيث أعلن بايدن، للمرّة الأولى، أنه سيكون «مستعدّاً للتحدّث» مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، حول الحرب في أوكرانيا، إذا أبدى الأخير اهتماماً بإنهاء الصراع، مستدرِكاً بأنه لن يفعل ذلك إلّا بعد التشاور مع الحلفاء في «الناتو» وأصدقائه الفرنسيين. ويُعدّ هذا التصريح أبعد ما ذهب إليه بايدن إلى الآن، لكنه أكد أنه «ليست لديه خطط فورية»، وأنه «إلى اللحظة، لم يرَ بعد أيّ مؤشّرات من بوتين إلى استعداده لإنهاء الحرب». ويرى مراقبون، على ضوء ذلك، أن الإدارة الأميركية ربّما تكون مَنحت ماكرون ضوءاً أخضر للشروع في بناء قناة تواصُل مع موسكو، خصوصاً أن الصحف نقلت عن الرئيس الفرنسي قوله إنه «بمجرّد أن تضع أوكرانيا شروطاً للتوصّل إلى اتّفاق سلام، فإنه سيكون مستعدّاً للتحدّث مع بوتين». كما أبلغ ماكرون، برنامج «صباح الخير يا أميركا» على شبكة «إيه بي سي»، أنه يعتزم التحدّث مع نظيره الروسي في الأيام المقبلة، على رغم أن مصادر الكرملين قالت إن جدول بوتين لا مكان فيه لمِثل تلك الاتصالات.