خفايا الأزمة المالية ومصير الودائع.. متى يفرغ “الصندوق الأسود”؟

/محمد حمية/

لم تكن الأزمة الاقتصادية والمالية، بتشعباتها النقدية والمصرفية وتداعياتها الاجتماعية والمعيشية، وليدة عام أو عامين، بل نتاج تراكمات كم هائل من السياسات الخاطئة والاستنسابية منذ عقود، عمقت الفجوات المالية إلى حدود بات شبه مستحيل احتواؤها ومعالجتها قبل سنوات، بخطط علمية وجدية طويلة المدى.

وقد يكون من الصعب الغوص في الأسباب المتعددة التي أوصلت البلاد إلى أكثر من نصف انهيار، وإلى شفير الانهيار والارتطام الذي يقترب أكثر من أي وقت مضى.

لكن يمكن القول إن الفجوة المالية بدأت بالتكون والتراكم منذ العام 2010 – 2011 لسببين:

الأول، “إخراج” الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة، باستقالة وزراء 8 آذار والتيار الوطني الحر آنذاك، ما جمّد المساعدات الغربية والخليجية، والسعودية تحديداً، وما كان يقدّم من دعم مالي للبنان.

الثاني، اندلاع الحرب في سوريا، ما أدى توقف الدعم المالي الدولي للبنان، وتراجع السياحة التي كان جزءاً كبيراً منها يأتي عبر الحدود السورية ـ اللبنانية وكذلك تجارة الترانزيت عبر سوريا، إضافة الى فرض عقوبات على سوريا وحصار لبنان مالياً واقتصادياً بعد 2019، ما راكم العجز في الميزان التجاري حتى وصل ما بين العامين 2020 – 2021 الى ما بين 10 و12 مليار دولار، بعد أن ارتفعت نسبة الاستيراد من الخارج طيلة السنوات الماضية باستثناء العام الماضي بسبب تجمد النشاط الاقتصادي والاستهلاكي خلال وباء كورونا.

توقف الدعم المالي للبنان، وتوقفت بطبيعة الحال الاستدانة بعد تصنيف البنك الدولي لبنان دولة غير قادرة على سداد ديونها في العام 2017 (cc-)، ما دفع مصرف لبنان الى تغطية هذا العجز من احتياطاته من العملات الصعبة والتي تشكل الودائع جزءاً كبيراً منها، ما خلق فجوة مالية كبيرة بلغت عشرات مليارات الدولار، تختلف الدولة والمصارف ومصرف لبنان على توزيعها بينهم. زادت الفجوة أكثر بعد الانهيار الذي أعقب أحداث 17 تشرين وتهريب عشرات المليارات الى الخارج، وأضرار كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، والفوضى المالية والأمنية العارمة في البلاد… واقع وضع الودائع أمام مصير مجهول في ظل غياب رقم دقيق عن الأموال المهربة، والحجم الحقيقي لاحتياط مصرف لبنان والودائع المتبقية في المصارف.

يقول مصدر مطلع على الملف المالي لموقع “الجريدة”: “في الأزمات المالية في النظام الرأسمالي، يتم تحميل الخسائر للمساهمين الكبار في المصارف، ثم المودعين ثم الزبائن، لكن الذي جرى في لبنان هو العكس”، ويشير الى أن الحفاظ على الودائع يكون بوقف مصرف لبنان تآكلها بسبب اعتماده لأسعار صرف متعددة، وثانياً على المجلس المركزي لمصرف لبنان وأجهزته تقييم حالة كل مصرف وميزانيته، وما إذا كان مفلساً، واذا كان يحتاج الى سيولة في اطار اعادة هيكلة القطاع المصرفي”.

ويكشف المصدر أنه تم إبلاغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أنه حتى لو استمر بسياسة التعاميم المصرفية التي تستنزف الودائع، فلن يستطع سد كل خسائر المصرف المركزي وخسائر المصارف، وإن سد جزءاً كبيراً منها. ويلقي المصدر اللوم على مصرف لبنان الذي رفع الفائدة البنكية، وعلى المصارف التي وقعت ضحيته بـ”طعم الفائدة” لتحقيق الأرباح الخيالية بالهندسات المالية، والتي أقنعت (المصارف) المودعين بنقل أموالهم الى لبنان ثم تحويلها الى دولار مقابل فوائد وصلت الى 7 في المئة قبل 17 تشرين بسنوات، وكان هدف المركزي وقتذاك سد العجز في الميزان التجاري من أموال المودعين والمغتربين.

إلا أن مصادر أخرى تحمل المودعين جزءاً من المسؤولية كونهم “طمعوا” بالفائدة المرتفعة و”أكلوا الضرب”.

ويبدي المصدر استغرابه الشديد إزاء موقف المصارف التي تحمل مسؤولية الأزمة لتعثر الدولة بسداد “اليوروبوند”، علماً أن النسبة الأكبر من خسارة المصارف مع مصرف لبنان وليس مع الدولة!

فموجودات المصارف موزعة كالتالي: 65 في المئة لمصرف لبنان، و25 في المئة مع القطاع الخاص و10 في المئة مع الدولة. فمصرف لبنان خسر هذه الأموال عبر الهندسات المالية التي أجراها لبعض كبار المصارف عبر فوائد مرتفعة وصلت الى 25 و30 في المئة، فضلاً عن سياسة دعم الاستيراد والليرة لعقود.

لا أحد يعرف الرقم الحقيقي للاحتياط في مصرف لبنان في ظل غياب المحاسبة الدقيقة والتدقيق الجنائي، يقول المصدر الذي يلاحظ لعب الحاكم في مقابلته الأخيرة على المصطلحات واستخدام عبارة “موجودات” مصرف لبنان وليس “احتياط”، وهذا تشاطر لتمويه الحقائق.

ويكشف المصدر أن مصرف لبنان طبع كميات هائلة من الليرة اللبنانية خلال الأعوام الماضية الأخيرة، وقد يستطيع المركزي بالوقت الراهن لجم سعر الصرف لأنه أحياناً يتوقف عن تزويد السوق بالليرة اللبنانية، وأحياناً أخرى يرفعه من خلال طبع كميات كبيرة لشراء الدولار من السوق الموازية، لكن بحال ترك الحرية للسوق سيسجل الدولار ارتفاعاً الى معدلات قياسية، لذلك لا يمكن التكهن بسعر الصرف في ظل فوضى السوق والتعاميم.

ويؤكد المصدر أن سبب الإفلاس والانهيار ليس سياسة حكومة الرئيس حسان دياب، بل قرار “المركزي” بإقفال المصارف وتدافع المودعين إلى فروع المصارف لسحب أموالهم، متسائلاً: لماذا قرر الحاكم بيع الحصة اللبنانية من الأسهم والسندات في الخارج، بعدما قررت حكومة دياب التفاوض مع حاملي الأسهم لإعادة جدولتها؟

ويشدد المصدر على أن الودائع لن تعود الى أصحابها في المدى المنظور، لأنها غير موجودة في المصارف، والدليل أن الخطة الحكومية تنتظر الأموال من الخارج لدفع الاموال للمودعين. ويضيف: “الباقي من الودائع 20 في المئة، والمنطق يقتضي توزيعها بالتدريج على صغار المودعين ثم على الكبار. لكن خطة الحكومة السابقة اعادة كل الودائع تحت 500 الف دولار واقتطاع حوالي 35 في المئة من أصحاب الودائع ما فوق ال 500 الف دولار، لكن حينها كان هناك اموال، ولو أقرت هذه الخطة لكانت انتهت أزمة الودائع واستعدنا بعض الاستقرار، لكن الخطة أسقطت من “لوبيّات” متعددة وتراكمت الخسائر وتفاقمت الازمة”.

ويوضح المصدر أن 99 في المئة من المصارف مفلسة، فهي لا تستطيع اعطاء سلف ولا اعادة الودائع ولا إجراء أي عمليات مالية وتمويل، وتفرض افلاسها على المودعين والمواطنين.

ويتساءل عن الهدف من إقرار قانون “الكابيتال كونترول” بعد تهريب أغلب الأموال الى الخارج، ويكشف أن السبب خلف إقراره ضغط المصارف لمنع رفع دعاوى وتجميد الملاحقات القضائية للمصارف مع مفعول رجعي.

وبعد افلاس خزينة الدولة والمصارف وتناقص احتياطات مصرف لبنان، يحذر المصدر من التوجه الى بيع أصول الدولة والذهب لتحميل الخسائر للدولة، وهذا توجه خطير سيؤدي إلى افلاس حقيقي وكامل ونهائي للدولة ويرهنها للقطاع الخاص.

ويشرح المصدر: “الفجوة المالية بالدولار، وإذا قُيد بيع أصول الدولة فستباع للداخل، أي شركات ومصارف، ولن يستطيعوا دفع ثمنها بالدولار، وستباع تصفية وبأسعار زهيدة”.

ويرى المصدر أن الرهان على صندوق النقد الدولي هو رهان على سراب، كون الصندوق لن يتشجع للتعامل مع بلد تحكمه طبقة سياسية فاسدة وعاجزة عن إنجاز الإصلاحات المطلوبة لتطبيق أي خطة تعافي وتمويل مع الصندوق والدول المانحة.

ويبقى السؤال: متى يفرغ الصندوق الأسود الموجود في مصرف لبنان؟