/ هيلدا المعدراني /
أغلق إعلان مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان تحديد انتخابات مفتيي المناطق في 18 كانون الأول المقبل، الباب على أزمة عمرها يقارب العقد ونصف العقد من الزمن.
كانت قضية انتخاب المفتين تخضع لاعتبارات عديدة، ولذلك كانت أسيرة التأجيل، الموضوعي حيناً، والسياسي أحياناً، وتحت عنوان “الظروف” في كل حين.
ولذلك، فإن استكمال هيكلية دار الفتوى كان يحصل بـ”الترقيع”، وبصفة “المؤقت”، في محاولة لتفادي تمدّد الانقسامات السياسية إلى داخل دار الفتوى، نظراً لتشابك الحسابات في انتخابات المفتين في المناطق، وكذلك لأن إجراء هذه الانتخابات كان سيؤدي إلى تحويل دار الفتوى إلى ساحة صراع بين القوى السياسية، نظراً لتأثّر الهيئات الناخبة في المناطق بمرجعياتها السياسية المحلية، خصوصاً أن تيار “المستقبل” كان ناخباً كبيراً في وسط الهيئات الناخبة، لكنه مع ذلك لم يكن قادراً على فرض خياراته في انتخابات المفتين، لأنه سيكون محرجاً للاختيار بين المرشحين الذين كان يدور كثير منهم في فلكه.
قبل نحو خمس سنوات، أطلق مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وعداً بإجراء انتخابات المفتين في المناطق في أقرب وقت. لكن رغبة المفتي دريان بإنهاء الشغور في مواقع المفتين، اصطدمت في السنة الأولى بموعد الانتخابات النيابية في العام 2018، مع ما ستتركه من تأثير عميق على انتخابات المفتين. ثم جاء الانهيار في العام 2019 وتداعياته، والانتفاضة الشعبية، وجائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، وتفاقم الأزمة المعيشية والاجتماعية، والانتخابات النيابية في العام 2022، وخروج الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية… ليفرضوا على المفتي دريان التريث في تنفيذ وعده.
لكن، ومع وصول عدد من التكليفات والتعيينات المؤقتة إلى حدود انتهاء صلاحيتها، بات المفتي دريان أمام خيار من اثنين: إما إجراء الانتخابات، وإما تمديد حالة “المؤقت”، مع كل ما أحاط بها سابقاً من التباسات، وما شابها من تشابكات في الحسابات وتضارب في المصالح السياسية.
أدرك المفتي دريان أن الأمر يحتاج إلى قرار جريء، وربما مغامرة، لحفظ موقع دار الفتوى الوطني، واستكمال هيكليتها، وإلغاء حالات “تصريف الأعمال” بصيغة “المؤقت”.
لم يكن في بال المفتي دريان ربط هذا الاستحقاق بجملة معطيات سيتأثر بها وتتأثر بخطوته:
أول هذه المعطيات، غياب الرئيس سعد الحريري وتجميد عمل تيار “المستقبل” الذي ما زال يتمتع بتأييد واسع في البيئة السنية، وتراجع شعبيته لا تلغي أنه ما زال صاحب الحضور الوازن. وبالتالي، فإن إجراء هذه الانتخابات قد يفسّر على أنه يتناغم ويستكمل عملية “إلغاء الحريرية السياسية”، وإنهاء حضور وتأثير وتمثيل سعد الحريري وتيار “المستقبل”.
ثانياً، إن حصول انتخابات المفتين في ظل الواقع السياسي السني المشرذم، قد يؤدي إلى مزيد من التشرذم مع احتمال كبير بانتقاله إلى داخل المؤسسة الدينية.
ثالثاً، إن الحراك الدائر في الساحة السنية لـ”ترتيب” أوضاعها، يشارك فيه بشكل مباشر السفير السعودي وليد البخاري، وبالتالي فإن انتخابات المفتين ستتأثّر بهذا الحراك، وستخضع لتأويلات عديدة وتفسيرات مختلفة.
رابعاً، إن الشغور الرئاسي وتصريف الأعمال الحكومي، سيؤديان إلى تعليق نتائج هذه الانتخابات، بسبب الحاجة إلى صدور مراسيم، وهو أمر متعذّر اليوم.
خامساً، إن قسماً كبيراً من الهيئات الناخبة “ممدّد” لها، وبالتالي قد تكون فقدت مشروعيتها في انتخاب المفتين. وهذا الأمر يعني تحديداً رؤساء البلديات السنّة في القرى ورؤساء وأعضاء المجالس البلدية في المدن الكبرى.
سادساً، إن الهيئات الناخبة ناقصة، بسبب الشغور في بعض مراكز الفئة الأولى من الموظفين السنّة.
كل هذه المعطيات اندفعت إلى الواجهة دفعة واحدة، على الرغم مما تشكّله الانتخابات من ركيزة أساسية في إعادة بناء المؤسسات الدينية وربط المناطق بالدار الأم.
عملياً، ينفّذ المفتي دريان وعده بإجراء الانتخابات، فضلاً عن أن هذا الأمر طبيعي، وقد تأخر كثيراً أصلاً من دون مبررات كافية ومقنعة للكثيرين في السابق.
وعملياً أيضاً، يكون المفتي دريان قد برّأ ذمته، وهو يؤكّد لكل مَنْ يطرق باب دار الفتوى أنه يقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين في المناطق.
وتنفي مصادر مقرّبة من دار الفتوى لـ”الجريدة”، جملة وتفصيلاً، تدخّلها في إبرام تسويات معينة، مؤكدة أن “التفاهمات تكون على صعيد الهيئات الناخبة فقط، حرصاً منها على التوافق بين العائلات، وهي تشجع على أن تكون الترشيحات تتمتع بالمواصفات التي تكون مؤهلة للموقع”.
وشدّدت مصادر دار الفتوى على أن السير في هذا الاستحقاق وتحقيقه، يشكّل تحدياً، وإثبات وجود قوي، في وجه الفراغ القائم في هذه المرحلة الدقيقة، حيث العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية.
لكن، وعلى الرغم من تأكيدات سمعها زوار دار الفتوى، من سياسيين ومشايخ ومرشحين ووفود المناطق، أن موعد الانتخابات حاسم ولا رجوع عنه، إلا أن المعطيات التي ظهرت قد تدفع لـ”إعادة نظر” في التوقيت والتباساته ومفاعيل عدم صدور المراسيم.
مصادر مطلعة على ملف انتخابات مفتيي المناطق، رأت أن التحالفات، أو الانقسامات في الهيئات الناخبة، تتأثر بعدة عوامل، يتداخل فيها البعد السياسي بالمناطقي والعائلي.
ولم تستبعد المصادر مشاركة تيار “المستقبل” في هذه الانتخابات من “خلف الستار”، لأنه “من البديهي” أن يكون المزاج “الحريري” متجذّراً في البيئة السنيّة في مختلف المناطق، وأن يتحرّك في الظل بفعالية.
وترى هذه المصادر أن “اتهام المملكة العربية السعودية بأنها تقف خلف قرار إجراء هذه الانتخابات، بهدف إعادة ترتيب الواقع السني بلا سعد الحريري، وبما يفرض تأثيرها المباشر على هذا الواقع، كما على دار الفتوى ومفتيي المناطق، إنما هو اتهام في غير مكانه وأن الذين يتحدّثون بهذا المنطق إنما يجهلون الواقع في الساحة السنية”.
وتجزم هذه المصادر أن “كل المرشحين، تقريباً، غير بعيدين عن السعودية، وأن أحداً من المرشحين المتنافسين لا يرغب، ولا يجرؤ على مخاصمة المملكة العربية السعودية”.