/محمد حمية/
تحوّلت جلسة مجلس النواب من مناقشة الرسالة التي وجهها الرئيس ميشال عون إلى المجلس النيابي، الى منبر للمبارزة السياسية واستعراض القوى، تحت ستار النقاش الدستوري والقانوني.
قبل الساعة الحادية عشر بدقائق، كانت جدران قاعة الجلسة تتململ من الصمت وفارغة من نواب الأمة الذين حضروا دفعة واحدة بكل تلاوينهم السياسية، غاب عنهم غسان السكاف وهادي أبو الحسن وميشال ضاهر ووليد البعريني. لم يكن هذا المشهد يوحي بداية بأن الذين دخلوا سوية متحادثين، سيشعلون الجلسة بمتاهة السجالات السياسية الهجينة ورقصات “التانغو” على جثة الدستور بعدما نخرته السنوات وحولته ألاعيب ملوك السياسة الى “رميم” والى آلهة من تمر يعبدونه ثم يأكلونه عندما يجوعون.
رن الجرس دخل رئيس المجلس نبيه بري الى الجلسة، تموضعت الكتل النيابية في أماكنها واتخذت وضعية قتالية وثبتت قواعدها وشحذت أسلحتها استعداداً للمواجهة وكأن الجميع على علم مسبق بحصولها. وأحاطت الكتل النيابية الخصمة لكتلة “لبنان القوي” من كل جانب كأنها تستعد للقتال، ونال رئيس التكتل السهام من كل حدب وصوب.
استبقت كتل نواب التغيير والكتائب والنائب ميشال معوض تلاوة رسالة عون بالاعتراض على انعقاد الجلسة بموضوع خارج أولوية انتخاب رئيس الجمهورية، فقالوا كلمتهم الدستورية والسياسية على لسان ملحم خلف ودونوا اعتراضهم ومشوا مغادرين الجلسة.
استفاض رؤساء الكتل والنواب بتشريح مواد ونصوص الدستور التي ترعى وضع حكومة تصريف الأعمال في فترة الشغور الرئاسي، لكن طرق التجاذب السياسي كانت أسرع من متاهة وزواريب الدستور.. أول رد كان من بري على نواب التغيير والكتائب الذين اعتبروا أن الجلسة دعوة الى نزاع طائفي بقوله: “وهل تعتقدون بأني أقبل بدعوة لأي أمر طائفي؟”.
النائب مروان حماده أطلق أول اشتباك بقوله: “الضرب بالميت حرام”، في اشارته الى رسالة عون كون عهده انتهى وسقط التكليف. فرد بري عليه: “أنا أطبق القانون، وعندما وجه عون الرسالة كان لا يزال رئيساً للجمهورية”. إلا أن نائب رئيس المجلس الياس بوصعب افتتح الدفاع العوني، برده على نائب الحزب الاشتراكي: “عليك باحترام المجلس النيابي”.
حاول التيار الوطني الحر استدراج خصومه الى ملعب السجال السياسي على جناح الدستور، لشد العصب المسيحي وإظهار أنه خط الدفاع الوحيد عن صلاحيات رئيس الجمهورية، وفق ما يشير النواب “القواتيون”، وتنبهوا الى ذلك، فبعدما طلب التيار ونواب كثر تلاوة رسالة رئيس الجمهورية ورفض رئيس المجلس بداية على اعتبار انها وزعت منذ ثلاثة أيام، سارع النائب جورج عدوان للتدخل والطلب من بري تلاوتها لكي لا تتحول مادة دسمة للتيار لاستخدامها في المعركة، فطلب بري تلاوتها. لكن اللافت أن أغلب النواب انصرفوا الى “الأحاديث الجانبية” الخاصة ولم يستمعوا للرسالة!
فجأة، صعد النائب وائل أبو فاعور الى قبة المجلس، “ووشوش” رئيس المجلس، وربما طلب الكلام.
غاص النائب جميل السيد في شرح النصوص الدستورية بإسهاب وما يمكن لحكومة تصريف الأعمال أن تقوم به في فترة الشغور الرئاسي. واقترح تأليف لجنة مصغرة لمواكبة ومتابعة هذا الأمر.
كان واضحاً استنفار أكثر من نائب سني للتدخل عند الحاجة إن انزلق العونيون الى استهداف الرئيس ميقاتي، لكن مطرقة “الأستاذ” كانت بالمرصاد ضد أي موجة طائفية قد تجتاح قاعة المجلس.. فتدخل النائبان جهاد الصمد وأحمد الخير لضبط مقاطعة نواب التيار لميقاتي مرات عدة.
وفيما انتقد الاشتراكيون التيار، كانت لافتة مداخلة النائب جورج عدوان، فهو وازن موقف كتلته النيابية بين ضرورات التزام سقف “التيار” مسيحياً حول حماية صلاحيات رئيس الجمهورية، وقدم هدية جديدة لميقاتي عبارة عن مطالعة دستورية انتهت بأن حكومته تستطيع ممارسة صلاحياتها وفق ما ينص عليه الدستور .. لكن أي دستور؟ أليس المختلف عليه حاليا؟ إذ بدا التناغم جلياً بين ميقاتي وكل من عدوان والنائب ستريدا جعجع التي “شالت حمل” عن ميقاتي ووضعت كتف معه لاحتواء ثقل “لكمات” وصفعات باسيل لميقاتي، فقاطعت “سيدة معراب” الاولى صهر “الرئيس” بهدف “التشويش” بينما كان ميقاتي يتصبب عرقاً، لتلتقط “أنتينات” الصحافيين ما رأته عيونهم وعدسات الكاميرات في نهاية الجلسة، صورة لجعجع وهي ترمي يديها على كتفي ميقاتي وابتساماتها التي تعبر عن فخرها به حتى كادت تأخذه بالأحضان..
بعدما أطلق رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد “الموقف الصادق”، بميزان من ذهب يوازن بين دعم التيار من جهة، وتفاهمه مع ميقاتي من جهة ثانية، اندلع سجال بين باسيل وبري الذي شطب من سجله لدى باسيل “نقطة سوداء” بعدم عقد جلسة لمناقشة رسالة عون الاثنين الماضي كما أراد باسيل.
سجال آخر بين الرئيس بري وعدوان حول الرسالة التي أرسلها الرئيس حسان دياب للمجلس يستفسر خلالها عن حدود تصريف الأعمال.. فكانت المفاجأة أن خانت بري ذاكرته الفريدة..
في تلك اللحظة كان عدوان ينصت باهتمام بالغ لكلام باسيل، بينما كانت عيون النائب جعجع تميل بطرفها الى رئيس التيار، تترصده وتتنظر ثغرة ما لتنقض عليه، فاتخذت من دعوة باسيل لانتخاب الرئيس الأقوى مسيحياً لتطالبه بانتخاب سمير جعجع، فاندلع سجال ناري وتحت الزنار على نية “شوارب باسيل وشوارب جعجع” و”الإيد بالزنار”.
واذ لوحظ خروج النائب ابراهيم كنعان وحيدا من المجلس مغردا خارج سرب زملائه الذين اصطفوا خلف “جبرانهم” في مؤتمره الصحافي، حده النائب أبو فاعور وجد ما يؤيد به باسيل.. انتخاب الرئيس من الشعب.. لكن بالتأكيد لم يكن يقصد سمير جعجع وفق دعوة زوجته ستريدا..
معركة حامية الوطيس كانت بين ميقاتي وباسيل أشبه بمناظرة سياسية ودستورية وجردة حساب وحرب وقائع.. اتهم باسيل ميقاتي بأنه يستغيب الرئيس عون.. وامتد السجال وتشعب حتى طلب ميقاتي الماء فقال باسيل: “ايه حلوة شربة المي”، فرد ميقاتي: “لأنك يا جبران بتنشف الريق”.
استنجد ميقاتي للخروج من مأزقه مع باسيل بشهادة الرئيس بري حول سعيه لتأليف الحكومة، وروى واقعة شهد فيها الوزير عبدالله بوحبيب والدكتور أنطوان شقير.
بعدما وضعت الحرب أوزارها، ونفذت الأسلحة من جعبة المقاتلين، بدا جلياً أنهم سيكونون على موعد جديد مع جولة قتال أخرى قد تكون الخميس المقبل، وربما يكون الشارع أحد مواقعها وليس قاعة المجلس، لكن رئيس المجلس حاول حبس المقاتلين وخلافاتهم السياسية و”نواياهم الطائفية” بين جدران المجلس لألا تنتقل الى الشارع، فأنهى الجلسة بموقف شدد فيه على “ضرورة المضي قدماً وفق الأصول الدستورية من قبل رئيس الحكومة المكلف للقيام بمهامه كحكومة تصريف أعمال”، فيكون بذلك منح نصف ثقة للحكومة المستقيلة عبر تأكيد حقها بممارسة صلاحياتها بالمفهوم الضيق لتصريف الاعمال ومن جهة ثانية فرض قيودا وشروطا صارمة على انعقادها وقراراتها.