/محمد حمية/
لا يبدو أن الحكومة الجديدة ستخرج من ظلمات الحسابات والمصالح السياسية الى نور الحاجة الماسة لهيئة دستورية شرعية وميثاقية، تقي البلاد شرّ الفوضى والفتنة التي تشرئب أعناقها مجدداً، في زمن الانهيار الداخلي وانعدام التوازن الاقليمي والدولي.
على الرغم من اصطدام الوساطات بجدار الشروط ووابل النار المتبادلة على جبهة القصرين الجمهوري والحكومي، إلا أن المساعي مستمرة وقد تثمر حكومة في ربع الساعة الأخير، وفق ما يقول الساعون والمتفائلون.
لكن ثمة قراءة مختلفة تؤشر الى تقاطع مصالح وحسابات بين الرئيس المكلف ـ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ورئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل على عدم تأليف حكومة جديدة.
ـ من جهة باسيل يمكن تسجيل الأسباب التالية:
* خسر أغلب الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية و”التيار” لصالح انحيازهم التدريجي إلى معسكر ميقاتي أو “السفارات”، وقد ظهر ذلك بمواقفهم حيال استحقاقات حكومية عدة، وبالتالي لن يمرر باسيل أي حكومة لا يستبدل هؤلاء الوزراء بآخرين يدينون بالولاء الصافي له. وبالتالي فإن الفراغ بالنسبة لباسيل أفضل بكثير من حكومة بوزراء التيار الحاليين.
* لن يسلّم باسيل بحكومة كاملة الصلاحيات ومتكملة المواصفات، ترث صلاحيات رئيس الجمهورية، وتتسلم قيادة البلاد والعباد، وتُسيّر عجلة الأمور بلا رئيس جمهورية، وكأن شيئاً لم يتغير، ويقلل ذلك من حماسة ومساعي انتخاب رئيس للجمهورية.
* إن حكومة جديدة قد تطلق عجلة المؤسسات وقد تحدث صدمة ايجابية في البلاد والأسواق إذا قرر الخارج دعمها، ويظهر الرئيس ميشال عون على أنه العقبة أمام حل الأزمات.
* عدم تأليف حكومة يمنح عون وباسيل فرصة الاستفادة من النزاع على صلاحيات رئيس الجمهورية، لإعادة ترميم الجراح في “الجسد العوني” وشدّ عصب الشارع المسيحي بعد تصدعه نتيجة الاستهداف الذي تعرض له العهد وباسيل ابان أحداث 17 تشرين 2019.
* الفراغ الحكومي سيولّد الاشتباك الدستوري ونزاع الصلاحيات، ما سيعزز الموقع التفاوضي لثنائي عون ـ باسيل، ويشكل أرضاً خصبة و”منصة متقدمة” لخوض معركة استحقاق رئاسة الجمهورية، تحت عنوان لا حكومة جديدة ولا حل للأزمات من دون رئيس جمهورية، ما سيجبر الأطراف بعد 31 الجاري على مفاوضة “قيادة الرابية” لانتخاب رئيس بشروطها لملء فراغي الرئاسة والحكومة.
* كلما تأزمت الأوضاع وطال أمد حل الأزمة السياسية، كلما زاد رهان باسيل على الوقت عله يحمل متغيرات وظروفاً على المستوى الإقليمي والدولي تعيده إلى حلبة السباق الرئاسي.
ـ من جهة الرئيس ميقاتي، فإن حساباته أيضاً تنحو في اتجاه مصلحته بعدم تأليف الحكومة للأسباب التالية:
* أي حكومة ستًشكل، ستُضيّق صلاحياته الدستورية، وستجعل باسيل شريكاً مضارباً بكل قراراتها، إذ يمكن للأخير تعطيل أي قرار، بل وتعطيل الحكومة برمتها، بوزير واحد، على اعتبار أن كل وزير يتحول الى رئيس للجمهورية في فترة الفراغ الرئاسي وفق العرف الذي اعتمده الرئيس تمام سلام.
* إن تشكيل حكومة جديدة، وبتوازنات يطلبها جبران باسيل، ستسمح للأخير الدخول من شباك قصر الرئاسة بعد أن يخرج من باب قصر بعبدا، فيكون بذلك بمثابة “وكيل” رئيس الجمهورية، أو بمثابة “وصيّ” على صلاحيات رئاسة الجمهورية و”حامي حماها”.
* تُبقي حكومة تصريف الاعمال ميقاتي رئيساً “فوق العادة” ،على الرغم من المفهوم الضيق لحكومته في تصريف الأعمال، وسيتسلح بنص المادة 62 من الدستور، بوراثة حكومته لصلاحيات رئيس الجمهورية.
* بمعزل عن شكل الحكومة ووضعها القانوني والدستوري، فإن ميقاتي سيتحول الى حاكم بأمره، بلا رئيس للجمهورية وبلا وزراء يمتلكون حق “الفيتو”، أما بالحكومة الجديدة فسيكون رئيساً للحكومة بين 24 رئيساً للجمهورية.
* استطاع ميقاتي استمالة أغلب وزراء التيار، وأي حكومة جديدة سيأتي باسيل بصقور “عونية” و”تيرجية”، ما سيسببون له المتاعب والصداع، أما في تصريف الأعمال فسيكون متحرراً من هذا الضغط ويمكنه “المونة” على ثلاث وزراء من التيار على الأقل.
* يدرك ميقاتي بأن القرار الدولي للانفتاح السياسي والاقتصادي على لبنان لم يأتِ، بعد على الرغم من بصيص النور الذي أضاءه ملف ترسيم الحدود، وبالتالي سيؤدي الى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية. فغياب حكومة أصيلة وفاعلة يتيح لميقاتي التنصل من وزر ما سيحصل من انهيارات جديدة، وثقل الاستحقاقات الأساسية، كالتعيينات مثل حاكمية مصرف لبنان والتشكيلات القضائية، والحلول للأزمات المالية والاقتصادية (الدولار والموازنة ورواتب الموظفين وأموال المودعين وخطة التعافي واقرار الاصلاحات المطلوبة لصندوق النقد الدولي)، وذلك بحجة أنها حكومة تصريف أعمال.
* الاشتباك الدستوري المتوقع حول الصلاحيات بعد وقوع الفراغ الرئاسي، سيمنحه فرصة لتحسين موقعه في الطائفة السنية، على اعتبار أنه لم يستطع أن يتحول الى وريث ولو جزئي للزعامة السنية ويملء الفراغ الذي خلفه الرئيس سعد الحريري في الساحة السنية، فيظهر على أنه تصدى لباسيل وحامي موقع وصلاحيات رئاسة الحكومة وبطبيعة الحال لاتفاق الطائف، ما يعزز أسهمه الحكومية في العهد الجديد.
* يمرر الوقت حتى انتخاب رئيس للجمهورية، ويستكشف فرص التمديد لنفسه في رئاسة الحكومة في العهد الجديد، ويقدم أوراق اعتماد للسعودية التي لا يبدو أنها متحمّسة لتغيير موقفها من لبنان في الوقت الراهن قبل ضمان مصالحها وطلباتها، لعل المملكة تعيد النظر بميقاتي وتمنحه الثقة كرجل للمرحلة المقبلة، على اعتبار أنه خارج المعادلة السياسية بعد انسحابه من خوض الانتخابات النيابية الاخيرة وعدم وجود كتلة نيابية تمثّله.
ويمكن الاشارة هنا الى أن السعودية تلعب في الوقت الضائع، في غمرة الانشغال الاميركي عن لبنان في ملفات أميركية داخلية وإقليمية ودولية، فتريد ملء الفراغ بتحسين موقعها التفاوضي لتكون شريكة أساسية للأميركيين والفرنسيين والايرانيين في أي تسوية للملف اللبناني أو لملفات المنطقة، لذلك يخدم ميقاتي هدف المملكة عله يسترضيها.
ميقاتي وباسيل يعزفان لحن موت الحكومة والفراغ، لكن وحده “حزب الله” يُغرد خارج السرب السياسي، انطلاقاً من حساباته بتفادي أي نزاع على الصلاحيات الدستورية ينتج توتراً طائفياً وفوضى أمنية واقتصادية بغنى عنها. ويحاول الحزب بما أوتي من قوة ومونة على الحليف والخصم، زرع الأمصال في شرايين الوساطات والمساعي، وضخ الأوكسجين في الأنابيب الحكومية لإنعاش الحكومة القابعة في غرفة العناية الفائقة، قبل إعلان وفاتها رسمياً في 30 الشهر الجاري!