/محمد حمية/
يُخيّل للناظر الى المشهد السياسي الداخلي، بأن ترسيم الحدود البحرية الجنوبية وتأليف الحكومة العتيدة وانتخابات رئاسة الجمهورية، استحقاقات ثلاثة مترابطة، كونها طفت على سطح الأحداث بوقت واحد. وبدا للكثيرين أن كسر الحصار الخارجي والانفراج المالي والاقتصادي، سيحصل من بوابة ملف الترسيم وعودة الشركات الأوروبية إلى ملعب الحفر والتنقيب في الحقول اللبنانية لاستخراج الغاز، لتكر سبحة الفرج، وتؤلف حكومة جديدة يليها انتخاب رئيس جديد يفتح مرحلة سياسية جديدة في البلد برعاية خارجية.
ويستند أصحاب هذه الرؤية إلى أنه لا يمكن التوصل الى صيغة لاستثمار حقول الغاز في كل من لبنان والاحتلال الاسرائيلي، من دون تسوية سياسية داخلية مشبوكة ومحبوكة بخيط إقليمي ـ دولي، بالتوازي مع تقدم المفاوضات على صعيد الملف النووي الإيراني بين طهران وواشنطن والمجموعة الدولية.
ويعتقد المتفائلون أن مرحلة الحصار المفروض على لبنان طيلة الثلاث سنوات الماضية، ستنتهي فور توقيع الطرفين اللبناني والاحتلال الإسرائيلي على مستندات المقترح الأميركي المختص بالحدود الاقتصادية، وأنه لا يمكن تحقق إنجاز بهذا الحجم بعد عقد من التعقيد والعرقلة، من دون “صفقة” ما ضمنية. ويتوقعون تراجع الضغط الخارجي والحرب السياسية والاقتصادية على لبنان الذي كان ملف الترسيم أحد أسبابها، خلال الأشهر المقبلة ومطلع العام المقبلة تحديداً، مع تبلور جملة ملفات واستحقاقات إقليمية: الانتخابات الإسرائيلية ـ الانتخابات الأميركية ـ النووي الإيراني ـ الحل السياسي في سوريا ـ انشغال الأميركيين في الحرب الروسية ـ الأوكرانية التي ستسّتعر بداية الشتاء المقبل. ويردد البعض بأن اهتمام وتركيز الإدارة الأميركية سيكون منصباً على روسيا، ما سيقلص منسوب الضغوط على الشرق الأوسط، لا سيما بعد إنجاز ملف الترسيم بين لبنان والعدو الإسرائيلي.
لكن التدقيق في غياهب المشهد وتفاصيله الخفية، تظهر وجهة نظر أخرى، تنطلق من أن تزامن الملفات الثلاث محضُ صدفة وغير مترابطة، وإن كانت متشابكة ومتقاطعة ببعض الجوانب.
فالأجواء الإيجابية التي تظلّل مقترحات الوسيط الأميركي، والتي تُقرّب موعد توقيع المستندات، لا تعني أن الأمور انتهت إذ تبقى العبرة بالتنفيذ، مع الإشارة إلى أن الاتفاق لم يأتِ لصالح لبنان مئة في المئة، ويمكن في هذا السياق تسجيل جملة ملاحظات:
* تنازل المفاوض اللبناني عن الخط 29 الذي رسمته قيادة الجيش الى الخط 23+، وبالتالي منح العدو حقل كاريش كاملاً مقابل منح حقل قانا للبنان مع الاحتفاظ للاحتلال بحق الاستفادة من عائداته المالية، في وقت يمنح الخط 29 لبنان قانا كاملاً بحراً واستثماراً نفطياً وعائدات مالية، ويقطع ثلث كاريش أيضاً.
* الشكوك حول أحقية وملكية لبنان لحقل قانا المتداخل جيولوجياً مع الأراضي الفلسطينية داخل الخط 23، طالما أن شركة “توتال” الفرنسية ستعطي جزءاً من أرباح عائداته الغازية الى “إسرائيل”، فمن يضمن أن تكون هذه العائدات من حصة لبنان وليس من أرباح الشركة؟ ما يعد تطبيعاً اقتصادياً مقنعاً.
* المعطيات غير المؤكدة عن وجود كميات من الغاز في قانا.. فيكون لبنان قد قايض كاريش الذي تأكد وجود كميات غازية كبيرة فيه، مع قانا المتوقع وجود غاز فيه أو قد لا يظهر وجوده كلياً . ومن سيضمن أن توقف “توتال” التنقيب بأي لحظة بسبب عدم وجود غاز كما فعلت في البلوك رقم 4 في العام 2020؟
* من يضمن أن يستخرج لبنان النفط والغاز قبل 5 سنوات؟ وإن استخرج فعلى أي خط أنابيب سيُصدر؟ وهل هناك ضمانات بتأمين سوق تصدير خارجي طالما أن أوروبا هي السوق الوحيد أمام لبنان؟ وربما عندما تمتلئ الخزانات اللبنانية بالنفط والغاز قد تكون الحرب الأوكرانية ـ الروسية انتهت والحاجة الأوروبية والدولية للطاقة انتفت. واستطراداً ما هي الضمانة بأن لا تنقض الحكومة الاسرائيلية المقبلة “اتفاق الترتيبات”، لا سيما إذا ترأسها رئيس الوزراء السابق نتانياهو؟
وإن كان الشق اللبناني ـ الاسرائيلي من الاتفاق قد أنجز، لكن لا يمكن تجاهل البعد الإقليمي والدولي: ماذا عن الإيراني كلاعب على الساحة اللبنانية أولاً وفي سوق الغاز والنفط الإقليمي والدولي ثانياً؟ وأين موقع روسيا في هذا المشهد؟ هل سار حزب الله والإيراني من دون الروسي باستخراج غاز المتوسط وتصديره الى أوروبا كبديل عن الغاز الروسي، بعدما تموضع حزب الله منذ أشهر على ضفاف الحرب وجارى موقف موسكو؟ فهل سيُنقب حزب الله على فخٍ إسرائيلي في مقترح هوكشتاين ليعلن رفضه للاتفاق؟ أم أنه سيستمر بتبني الموقف الرسمي إن سار بالاتفاق كلياً؟
ربما يكون لبنان قد كسِب إزالة الفيتو عن استثمار ثروته الغازية، واقتناص فرصة الحاجة الغربية والعالمية للطاقة، والتي ستستمر خلال الأعوام القليلة المقبلة بالحد الأدنى، للانتعاش الاقتصادي واحتواء الضائقة المعيشية والانفجار الاجتماعي، وقد ينعكس ايجاباً على ملفي الحكومة والرئاسة. لكن الملفات غير مترابطة، والتسويات تتم “على الملف”، وقد مرّ الترسيم بــ”المفرق” وليس ضمن سلة اتفاق كامل.. وقد لا يتم تأليف حكومة، وقد نشهد فراغاً لأشهر في سدة الرئاسة الأولى!