/محمد حمية/
سلّم القيمون على الشأن السياسي بحتمية الشغور الذي سيخلف الرئيس ميشال عون في كرسي الرئاسة الأولى، في الدقيقة الأولى بعد منتصف ليل 31 تشرين الأول المقبل، أما الأسباب فهي كثيرة، تبدأ بالخلافات السياسية الداخلية والتوازنات النيابية الهجينة، ولا تنتهي بتأثير المصالح المتناقضة والصراعات والحروب التي تعصف بالساحتين الإقليمية والدولية.
لكن المعنيين يعيشون سباقاً بين تأليف حكومة تستبق الفراغ الرئاسي وتحول دون انفلات الأمور على غاربها، وبين انتهاء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية ينتهي معها تكليف الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ومفاعيله الدستورية، وكذلك تنتفي فرصة تأليف حكومة جديدة لسببين يكفي واحد منهما لذلك: تحول مجلس النواب الى هيئة ناخبة وبالتالي تعذر منح الثقة للحكومة، والثاني غياب رئيس للجمهورية يوقع مرسوم تأليفها.
يحمل قراءة المشهد الداخلي وتأثيراته الإقليمية والدولية، احتمالين متناقضين تتجمع لكل منهما معطياته ومعلوماته وظروفه الموضوعية:
الأول، يستبعد تأليف حكومة بما تبقى من مهلة دستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، في ظل تضارب الأولويات بين الحكومة ورئاسة الجمهورية، مع تفضيل قوى أساسية في المجلس انجاز الرئاسة أولاً ثم تأليف حكومة جديدة. وقد يكون للنائب جبران باسيل مصلحة بالدخول الى معركة انتخابات الرئاسة بفراغ حكومي ما يحصن موقعه التفاوضي بانتخابات الرئاسة، كون التركيز سينصب وقتذاك على الرئاسة بعد انسداد أفق التأليف سياسياً ودستورياً، فيتحول باسيل الى ممر إجباري للتفاوض وقاعدة أساسية لصناعة الرئيس المقبل.
يتوافق هذا التوزع المصلحي للأطراف الداخلية مع ميل خارجي أميركي ـ إسرائيلي تحديداً لتحقيق هدفين مزدوجين: حرمان العهد من تسجيل أي انجاز، وعرقلة تأليف الحكومة تزامناً مع شغور رئاسي وظروف انهيار اقتصادي وانفجار اجتماعي وأمني في الشارع لتبرير توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بحجة عدم وجود سلطة (رئيس وحكومة)، ودفع لبنان للتنازل بالترسيم والرئاسة معاً، وبملفات سيادية أخرى كالنازحين السوريين وسلاح المقاومة. ويعزز فرص هذا الاحتمال التعقيدات في مفاوضات الملف النووي الإيراني، الأمر الذي سينعكس توتراً في العلاقات بين حلفاء واشنطن وطهران في لبنان، وتصاعد الضغوط الأميركية على بعض المعنيين بالتأليف لعرقلة الحكومة التي يعرف الأميركي أنها تريح “حزب الله”، وبالتالي يتخذ الأميركي مفتاح الاستحقاقات اللبنانية رهينة للضغط بمفاوضاته مع ايران.
الاحتمال الثاني، اقتناع ميقاتي بأنه لن يستطيع قيادة الفراغ، أو الشغور كما يسميه، في سدة الرئاسة الأولى، في ظل حكومة تصريف الأعمال، مع تبلغه رسائل من جهات عدة تؤكد نية وزراء العهد تعطيل حكومة التصريف بــالـ”فيتو” الذي يملكه كل وزير وفق العرف السائد في “حكومات الشغور”. ولذلك سارعت جهات وسيطة للتدخل على جبهة بعبدا ـ السراي الحكومي، لحثّ ميقاتي على تدارك الوضع وتدوير الزوايا مع رئيس الجمهورية للتوصل الى صيغة حكومية تحول دون وقوع المحظور الدستوري والطائفي، فميقاتي سيكون بعد 31 تشرين المقبل منزوع التكليف والتأليف الحكومي ومكبل بالـ”فيتو” العوني، وبالتالي رئيس حكومة بلا صلاحيات وعاطل عن العمل وحتى عن التصريف، ولذلك يفضل تأليف حكومة أصيلة ليتربع على عرش صلاحياتها وصلاحيات رئيس الجمهورية معاً، ما يجعله رئيساً “فوق العادة” حتى يقضي الله “أمراً رئاسياً” مفعولاً.
ويُسند هذا الاحتمال بمصلحة لـ”حزب الله” بتأليف حكومة تحتوي الانهيار الاقتصادي والانفجار الشعبي والأمني الذي يقف على الأعتاب، ما سينعكس فوضى لن يسلم منها الحزب وبيئته الشيعية والوطنية، ونعود الى لعبة فوضى الشارع والتوترات الطائفية والمذهبية التي يخشاها الحزب كثيراً. وكذلك يريد الحزب تحصين الوضع الداخلي بحكومة أصيلة وشرعية لمواكبة ومواجهة ملف الترسيم، إن وُقِع الاتفاق، أو وقَعت الحرب العسكرية مع العدو الإسرائيلي.
تتلاقى مصلحة ميقاتي مع اتجاهات دولية، فرنسية تحديداً، لتأليف حكومة قبل نهاية ولاية عون، لاحتواء تداعيات الانهيار الاقتصادي والمالي والانفجار الاجتماعي والأمني في الشارع، والذي لاحت مؤشراته بسلسلة الأحداث الأمنية المتعددة والمتزامنة الأسبوع المنصرم، ما أثار قلقاً خارجياً فرنسياً ـ أوروبياً، وحتى أميركياً، من انفلات الأوضاع، ما يؤثر على انجاز الاستحقاقات المطلوبة خارجياً، لا سيما الحكومة والرئاسة والإصلاحات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وترسيم الحدود، وخشية خارجية من انفراط الدولة كلياً، ما يؤدي الى تعزيز قوة “حزب الله” وامتداده الإيراني سياسياً واقتصادياً، مع التوجه الحكومي لقبول هبة الفيول الإيراني، فضلاً عن الأخطار الأمنية لأي انهيار مالي وأمني على المصالح الغربية الأميركية ـ الأوروبية في لبنان.
لا يمكن الحسم الآن أي خيار سينتصر على الآخر، بانتظار تبلور صورة المشهد الداخلي وتطورات الأوضاع الإقليمية، للبناء على الشيء مقتضاه.