/محمد حمية/
لم ينجح اللقاء الرابع بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي بإحداث ثغرة في الجدار الحكومي المُغلق، في ظل تباعد رؤى ومقاربة الطرفين، وتناقض رهاناتهما وحساباتهما السياسية حيال المرحلة المقبلة.
فالمشهد السياسي والاقتصادي الحالي، والمناخ الخارجي القائم الذي يُظلّل عملية تأليف الحكومة المقبلة، يختلف عن أي مشهد ومناخ آخرين، فالكباش والاشتباك السياسي وصراع الصلاحيات بين عون وباسيل من جهة وميقاتي من جهة ثانية، يأتي وسط تزاحم الاستحقاقات الدستورية وتضارب المهل الزمنية لإنجاز هذه الاستحقاقات، ما يُهدد البلد بأزمة مثلثة الابعاد والأضلاع سياسية ـ دستورية ـ ميثاقية، نشأت عن وجود حكومة تصريف أعمال لم تنل ثقة المجلس النيابي الجديد، وعجز المعنيين تأليف حكومة جديدة كاملة المواصفات والصلاحيات الدستورية على مسافة أيام من الدخول بالمهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، قبيل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس الحالي، بالتزامن مع شبه تسليم بعجز القوى السياسية عن انتخاب رئيس جديد، ما دفع بكافة الأطراف الى “دوزنة” حساباتها وخياراتها المقبلة، لا سيما على صعيد تأليف الحكومة وفق ما يقتضي خيار الفراغ في سدة الرئاسة الأولى.
حتى الأسبوع الماضي، كان ميقاتي ينام على حرير “التصريف” و”التأليف”، فهو أسرّ لأحد الوزراء المقربين، وفق المعلومات، أنه “مش فارقة معو طالما يضع التصريف في جيب والتكليف في جيب آخر، ويبلطوا البحر”، فكان يعدّ الأيام المتبقية من ولاية عون، لكي يُنصَّب حاكماً بأمره على عرش السلطة من باب تسلم صلاحيات رئيس الجمهورية. وكان يعتزم إيغال يده أكثر في “الصحن المسيحي” ووراثة صلاحيات الرئيس، بمباركة من الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، وفق ما تتهمه مصادر “التيار الوطني الحر”.
أما وبعدما وصلته رسائل من بعبدا تتحدث عن رفض المرجعيات المسيحية، الدستورية (رئاسة الجمهورية)، والروحية (بكركي)، فضلاً عن “التيار الوطني الحر” تسلم حكومة تصريف الأعمال صلاحيات الرئاسة، وتناهى الى مسامعه أن “مفتي القصر” يحضرون فتاوى دستورية تؤكد عدم جواز تسلم الحكومة المستقيلة صلاحيات الرئيس، حرك محركاته نحو بعبدا بدفع من “حزب الله” والرئيس نبيه بري، لمحاولة سبر أغوار بعبدا لجهة تأليف حكومة جديدة أصيلة ودستورية قادرة على حمل “ثقل الصلاحيات”، ويستطيع من خلالها إدارة الدولة واتخاذ القرارات بأريحية، ومن دون ضجيج سياسي وصخب دستوري، بعدما تيقن بأن حكومته ستحال إلى التقاعد فور انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وقابلة للطعن بشرعية قراراتها بظل الفراغ الرئاسي، فيما سيسقط التكليف دستورياً بشكل فوري، ويتحول ميقاتي الى رئيس بلا تصريف ولا تكليف.
لكن رئيس “تيار العزم”، وفق المطلعين، لا يريد تأليف حكومة كيفما كان، بل إدخال تعديلات تقلّص من حصة رئيس الجمهورية وتعزز من موقعه، فيما يرفض “الجنرال” وتياره قضم حصتهما في نهاية العهد، بل تعزيزها بـستة “ضباط” برتبة وزراء من صقور “التيار” و”الحرس القديم”، أي من “العونيين الصافين”، لخوض معركة إدارة الفراغ الرئاسي تحت شعار تحصين الحكومة سياسياً، بعدما ظهر للجميع بأن ظروف التسوية الخارجية للأزمة اللبنانية غير ناضجة بسبب انشغال الخارج بأزماته وحروبه.
وثمة من يقول إن “صهر الجنرال” لا يريد حكومة في الوقت الراهن إلا إذا نال فيها “حصة الأسد”، أي الثلث المعطل، ليضمن تعطيل قرارات الحكومة في مرحلة الفراغ، وبالتالي لن يقبل بحصة وزارية أقل من حجمه الحالي، فتأليف حكومة لكي تتسلم صلاحية الرئيس ستُفقِد حماس القوى السياسية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ويفقد بذلك النائب جبران باسيل موقعه التفاوضي بأن يكون مركز جذب اللاعبين في الملعب الرئاسي، للتفاوض معه في هوية وشخصية الرئيس المقبل، طالما اختار لنفسه صفة “صانع الرؤساء” بدل المرشح، ويمكنه التفاوض حينها على الرئاسة مقابل ضمانات تتعلق بسياسات الرئيس وحصة “التيار” في الحكومة الجديدة وضمان المواقع العونية في الدولة.
لكن عون وباسيل يملكان هامشاً أوسع للمناورة في ملفي الحكومة ورئاسة الجمهورية مما يملك ميقاتي، على الرغم من أن العهد شارف على نهايته و”الرئاسة المسيحية” ستفقد الصلاحيات الدستورية لصالح الحكومة ورئيسها. بيد أن المهلة تضيق أمام الرئيس المكلف، فهو مقيد بسلاسل عدة:
* فتاوى دستورية تؤيدها المرجعيات المسيحية، وتستند الى المدة 69 الفقرة 1 البند “الحكومة تعتبر مستقيلة عند بدء ولاية رئيس الجمهورية”، والتي جاءت، وفق أوساط سياسية وقانونية في “التيار الوطني الحر”، لتوضح الجدال حول المادة 63 من الدستور “عند خلو سدة الرئاسة الأولى تناط صلاحيات الرئيس وكالة بمجلس الوزراء”، ما يعني أن حكومة تصريف الأعمال هي حكومة مستقيلة ولا يمكن أن تتسلم وكالة صلاحيات رئيس الجمهورية، لأنه عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ستستقيل وهي حكماً مستقيلة. فكيف لها أن تسلم صلاحيات رئيس جمهورية وأن تستقيل عند بدء ولايته؟
إلا أن فتاوى أخرى تؤكد بأن السلطة لا يمكن أن تذهب الى الفراغ، بل تنتقل الى الحكومة القائمة بمعزل عن وضعها وصفتها، ويعزز مقربون من ميقاتي هذه الفتاوى بأن رئيس الجمهورية لم يوقع مرسوم استقالة الحكومة الحالية حتى الساعة.
* على ضفة مقابلة، فإن ميقاتي مكبّل بمهلة زمنية محددة لكي تنال حكومته الجديدة ثقة المجلس النيابي، أي قبل بدء جلسات انتخاب رئيس الجمهورية في الأول من أيلول، فالمجلس النيابي يتحول في هذا التاريخ إلى هيئة ناخبة ولا يعود باستطاعته منح الثقة للحكومة، وبالتالي تبقى حكومة غير شرعية وغير دستورية، وإن زُيّلت بتوقيع رئيسي الحكومة والجمهورية. فنكون في هذه الحال أمام سابقة تاريخية: حكومة تصريف أعمال مستقيلة بحكم الدستور وفاقدة للشرعية وللميثاقية إلى جانبها حكومة جديدة بلا ثقة نيابية ولا يمكنها ممارسة صلاحياتها الدستورية، وفراغ في رئاسة الجمهورية، ومجلس نيابي محكوم بمهمة الانتخاب كهيئة ناخبة، وانهيارات اقتصادية واجتماعية، وحصار خارجي، وفوضى أمنية.
بالتالي، فإن ميقاتي محكوم بالاتفاق مع عون لإنجاز حكومة خلال ستة أيام فقط، إلا إذا فرضت الضرورات ابتداع واجتهاد استثناء بعقد جلسة نيابية مخصصة لمنح الحكومة الثقة، لكن ذلك مخالف للدستور وفق ما تؤكد مراجع دستورية.
وعلاوة على ذلك، فإن هاجس صندوق النقد الدولي الذي سيدق باب القصر الحكومي ونوافذ المسؤولين في 21 أيلول المقبل، لا يفارق ميقاتي، فكيف سيستقبل “رئيس التصريف” وفد الصندوق في ذاك التاريخ بلا حكومة وبلا إصلاحات! ويبدو أن ميقاتي والداعمين الدوليين تخففوا من ثقل ملف الترسيم، بعد التوجه الإسرائيلي لتأجيل استخراج الغاز من كاريش الى تشرين المقبل، وبالتالي لا داعي لتأليف حكومة لتوقيع الاتفاق قبل تشرين.
أيام فاصلة سيكون وقعها قاسياً على مختلف الأطراف، سيذوب معها الثلج ويبان المرج، ويتبين خيط الحكومة الأبيض من خيطها الأسود، ويظهر مدى جدية ميقاتي إزاء تأليف الحكومة. فهل يعبر مرحلة الفراغ بحكومة جديدة، أم بفراغ مزدوج: رئاسي وحكومي؟