/ محمد حمية /
لم يكُن تزامن رسائل التهديد النارية التي أطلقها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، بالتزامن مع وجود الرئيس الأميركي جو بايدن في فلسطين المحتلة، محضُ صدفة.. فالحزب يدرس خطواته وقراراته بدقة متناهية، ويقيسها بميزان الذهب وفق مسار أحداث ومستجدات المنطقة وحجم تأثيرها على لبنان، وقد ربط السيد نصر الله إطلالته الأخيرة على ساعة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يبحث مع العدو الاسرائيلي جملة ملفات في فلسطين والمنطقة، وعلى رأسها ملف النفط والغاز في شرق المتوسط وفي قلبه ملف ترسيم الحدود مع لبنان.
استغل الحزب زيارة بايدن الى الأراضي المحتلة، لفرض ملف الترسيم على جدول أعمال طاولة البحث الأميركية ـ الاسرائيلية، كونه يدرك حجم الدور الأميركي في رعاية مشروع الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
بعد عملية المسيّرات، انتظر “حزب الله” مدة أسبوع بالتمام والكمال ليترقب ردود الفعل الداخلية والخارجية على العملية، علّ واشنطن و”تل أبيب” تتلقفان الرسالة وتُسرعان بإحياء مفاوضات الناقورة. لكن تبين أن رسالة المسيّرات، وعلى الرغم من مفاعيلها الكبيرة، لم تفتح الكوة المطلوبة في الجدار المغلق بإحكام على ثروة لبنان النفطية والغازية المطمورة تحت الأرض. لذلك وجد الحزب أن الأمر يحتاج إلى جرعة مضاعفة لدفع الملف إلى حافة الهاوية وشفير الحرب، لجرّ اللاعبين الكبار الى مربع التفاوض، أو الى خطوط الحرب، وتجنب الغوص بمتاهة خطوط الترسيم والغرق بعسل “الأجواء الايجابية” التي يُكررها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين.
لكن “دوز” جرعة خطاب نصرالله الأخير، أشعلت عاصفة بحرية من المد والجز في مياه شرق المتوسط لن تهدأ قبل أن ترسو التسوية على برّ الحلول الغازية، لذلك قرر الحزب الإبحار في رحلة الحرب وخوض غمار عواقبها كونها الوسيلة الأخيرة لإنقاذ سفينة البلد من الغرق والموت المحتوم.
تبين لـ “حزب الله” أن تدويل حقل “كاريش” سيفرض أمراً واقعاً على لبنان والمنطقة ككل.. فمشروع تصدير غاز المتوسط الى أوروبا، لم يعد مشروعاً ثنائياً “إسرائيلياً ـ أوروبياً”، بل يضم دولاً أخرى كمصر وقبرص مع تغطية ورعاية ومصلحة أميركية مباشرة، بعد أن تعهدت واشنطن لأوروبا بتأمين مصدر بديل عن الغاز الروسي، ما يؤشر الى عمق وتشابك المصالح في “مشروع الغاز” الذي يجب أن ينجز خلال الشهرين المقبلين كحد أقصى. ما يعني وجود التزامات وتعهدات مالية وتقنية وقانونية على الدول المتشاركة في المشروع تنفيذها، ما يصعب مواجهة المد والبعد الدوليين لهذا المشروع فور البدء باستخراج أول ذرة غاز.
بعدما انكب الحزب على تفكيك ألغاز ملف ترسيم الحدود وتشابك الخطوط بعد تكليف أحد مسؤوليه بذلك، توصلت قيادته والمعنيون في الدولة، الى خلاصة مفادها أن الوسيط الأميركي يُضلل لبنان بـ”مورفين” المصطلحات المكررة كـ”العودة الى المفاوضات” و”الايجابية”، لكنه يحفر للبنان فخ تمرير الوقت لاستكمال “اسرائيل” أعمال الحفر والتنقيب وبدء الاستخراج، وحينها ستجري رياح الغاز بما لا يشتهي لبنان، وبالتالي إن أي مواجهة عسكرية سيرى الحزب نفسه أمام اتحاد دولي – اقليمي عريض يتشارك بمصالح حيوية كبرى في مشروع الغاز الاسرائيلي، ويحوّل الحزب الى معطل لأكبر مشروع لاستجرار الغاز من المتوسط لإنقاذ أوروبا وحصار روسيا، وبالتالي مصدر تهديد لاستمرار تدفق النفط العالمي وللمصالح الغربية.
لذلك أعاد الحزب تقييم المرحلة الفاصلة بين الخطاب ما قبل الأخير وبين عملية المسيّرات، وقرأ ردة الفعل والمتغيرات وموازين القوى الاقليمية بدقة، وكذلك أبعاد التأخير في حسم الملف، وقرر قلب الطاولة مبكراً قبل فوات الأوان واستخدام السلاح في فرض ملف الغاز اللبناني على جدول أعمال مشروع غاز المتوسط كفرصة ذهبية وتاريخية قد لا تتكرر ظروفها.
كما وصل الحزب الى قناعة بأن كل ما يجري من أحداث وأزمات وانهيارات وحصار خارجي وتصدعات في أعمدة الكيان اللبناني، هو حصيلة المخطط المرسوم في زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو الى المنطقة ولبنان في حزيران 2019، على أن ينتهي هذا المخطط بانهيار اقتصادي كبير وفوضى اجتماعية ومجاعة تقود الى انفجار اجتماعي في الشارع قد تتحول الى حرب أهلية في أي لحظة، وحينها سيفقد الحزب توازنه وأوراق قوته وتنكشف الساحة الداخلية أمام الشروط الخارجية.. لذلك لن يسمح الحزب بالوصول الى نقطة الارتطام والانفجار الداخلي الكبير، وسيفقد العدو عنصر المفاجأة ويفجر الحرب من البوابة النفطية، كما أفقدت عملية الأسر عنصر المفاجأة لدى العدو الاسرائيلي في عدوان تموز 2006.
فهل يُكرر السيد مقولته الشهيرة قريباً: “أنظرو اليها تحترق في عرض البحر ومعها عشرات الجنود الصهاينة؟”.
تجزم جهات على صلة بالمقاومة لموقع “الجريدة” بأن ملف الترسيم واستثمار ثروة لبنان الغازية وصل الى خواتيمه النهائية، والى مرحلة الحسم خلال ستة أسابيع، أكان ايجاباً عبر احياء التفاوض وترسيم الحدود والتعهد الأميركي بالسماح للبنان استخراج واستثمار ثروته تحت ضغط تقاطع المصالح الغربية – الاسرائيلية لإنجاز مشروع تصدير غاز المتوسط الى اوروبا، أو سلباً بإرسال “المسيّرات الحربية” أو “الطوربيدات البحرية” لنسف منصة “كاريش” والباخرة اليونانية ومشروع الغاز برمته، والذهاب الى حرب واسعة النطاق كان الحزب يخشاها،لكنها صارت الخيار الأقل كلفة من خيار الموت الجماعي للشعب اللبناني.