
المشهد العام كما يلي: الدولة اللبنانية تحاول أن تطرق كل الأبواب الخارجية سعياً لحلّ سياسي يوقف العدوان الإسرائيلي، والحراكات والمبادرات الرامية إلى تحقيق هذه الغاية، تدور في حلقة مفرغة، أو بالأحرى في أفق مسدود، يتجاذبها من جهة، إشعال إسرائيل المتعمّد لشرارات التصعيد، واستباحتها الكاملة للأجواء اللبنانية، وتهديداتها المتصاعدة، وجديدها تهديد وزير دفاعها «بالعمل مجدّداً بقوّة في لبنان إن لم يُسلّم «حزب الله» سلاحه»، وتلويحها بإعادة النظر في اتفاق الترسيم البحري، ومن جهة ثانية رفض الحزب انصياعه للمطلب الإسرائيلي، وتأكيده أنّه «ليس معنياً بأي طروحات قديمة أو جديدة، طالما لم تلتزم إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار، ولا مجال الآن للنقاش في أيّ موضوع قبل أن يطبّق هذا الاتفاق». علماً أنّ ما يُعرَض على لبنان، هو «إمّا استمرار القتل أو الاستسلام الكامل للعدو».
على أنّ البارز في الساعات الأخيرة، تجلّى في الحراك المصري المتجدّد عبر زيارة وزير الخارجية المصرية بدر عبد العاطي إلى بيروت ولقاءاته مع كبار المسؤولين، والتي أكّدت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، أنّ زيارته، التي تتزامن مع اتصالات داخلية وخارجية مكثفة لتبريد الأجواء، تصبّ في ذات الوجهة، أي احتواء التوترات وكسر جدار التصعيد، والحؤول دون أي خطوات تؤدّي إلى مفاقمته، وبالتالي لا يحمل معه مبادرة أو أي مقترح للحل جنوباً، بل نقل خلالها تأكيد وقوف مصر إلى جانب لبنان، ودعمها أمن البلد واستقر
هذا المشهد المقفل، يودع رصيداً إضافياً في «بنك الاحتمالات» التي تتهدّد البلد، وينثر في الأجواء مزيداً من الأسئلة القلقة المتداولة في الأوساط الشعبية والسياسية والرسمية، التي تسارعت بشكل كبير بعد العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية واغتيال المسؤول الأمني في «حزب الله» هيثم علي الطبطبائي قبل 3 أيام:
أولاً، هل ثمّة فرصة متاحة لنجاح أي مسعى أو مبادرة، بعد قصف إسرائيل لمبادرة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون؟
ثانياً، كيف يمكن لأي مبادرة، أياً كان مصدرها، أن تؤدّي إلى بلورة حل ديبلوماسي، طالما أنّ «حزب الله» رافض بشكل قاطع التخلّي عن سلاحه؟
ثالثاً، ما هي نتيجة فشل المساعي والمبادرات، وفي أي اتجاه ستنحى الأمور؟
رابعاً، إلامَ ترمي إسرائيل من خلف رفع وتيرة التصعيد في هذا التوقيت بالذات؟ وهل بهذا التصعيد تحضّر الأجواء لعملية عسكرية في لبنان؟ وهل ثمة غطاء خارجي لهذه العملية، وبمعنى أدق هل هناك ضوء أخضر أميركي لها؟
خامساً، «حزب الله» وكما يبدو، يتعمّد إبقاء ما قد يقوم به من خطوات مبهماً، لكن، هل يستطيع أن يردّ على إسرائيل، بل هل ما زال يملك من القوّة والإمكانات ما يمكنه من هذا الردّ؟
سادساً، ماذا لو آثر «حزب الله» عدم الردّ، فكيف سيُبرِّر ذلك، خصوصاً أمام بيئته؟
سابعاً، ماذا لو قرّر الحزب الردّ، فهل يضمَن أن يكون لهذا الردّ تأثير على إسرائيل؟ وهل يملك من القدرة ما يجعله يتحمّل عواقب هذا الردّ، سواء عليه كتنظيم بشقَيه العسكري والسياسي، أو على بيئته الشعبية، أو على لبنان بصورة عامة؟
ثامناً، السؤال الأهمّ، إذا كانت اغتيالات كوادر وعناصر «حزب الله» التي حصلت منذ إعلان اتفاق تشرين الثاني، قد تمّت، وفق ما يقال، عبر ما باتت تسمّى «قنّاصات مسيّرة» سواء بصورة عشوائية، أو بالاستعانة بتقنيات الهواتف والذكاء الاصطناعي، فكيف نجحت إسرائيل في اغتيال القيادي الأمني في الحزب الطبطبائي – الذي يُفترَض أنّ حركته محاطة بسرّية بالغة بل تامة – وبذات الطريقة التي تمّ فيها اغتيال قادة الحزب قبل وخلال حرب الـ66 يوماً؟ فهل للتقنيات والذكاء الاصطناعي دور في الاغتيال، أم أنّ هناك خرقاً وخللاً في بنية الحزب الأمنية، يتحرّك في داخلها أو حولها مرشد بالعين المجرّدة؟
التصعيد الواسع مستبعد
الأجوبة عن تلك الأسئلة، قد تخبّر عن نفسها بنفسها في الأيام المقبلة، ومن شأنها أن تبدِّد الغموض القائم، وتحدِّد المسار الذي ستسلكه الأمور في المرحلة المقبلة.
لكن، وعلى رغم من عوامل القلق المتراكمة في الأجواء اللبنانية، التي تعززها الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية، فإنّ مسؤولاً رفيعاً يؤكّد لـ«الجمهورية»، أنّ «ما هو غالب حتى الآن، هو إشارات خارجية ما زالت ترد من مصادر متعدّدة، تُقلِّل من احتمالات التصعيد الواسع، وتؤكّد أنّ بلوغ حل سياسي احتمال لا يزال قائماً».
ولفت المسؤول الكبير إلى أنّ تلك الإشارات ترد بصورة عامة، من دون أي توضيح لكيفية بلوغ هذا الحل وعلى أي أساس سيُبنى، أو لتحديد أفق زمني لبلوغه. وتابع: «الأجواء التي كان ينقلها الموفدون من أميركيِّين وغير أميركيِّين، تتلخّص بالحرص على أمن لبنان واستقراره، ودفع الأمور نحو تسوية سياسية، واستبعاد التصعيد الواسع لعدم وجود ضوء أخضر، تحديداً أميركي، لأيّ عمل عسكري إسرائيلي على لبنان». ويُضيف: «الأميركيّون في المحادثات معهم، يؤكّدون أنّ أولويتهم استقرار لبنان وبلوغ حلّ سياسي ينهي العدوان»، ويُنقَل عن أحد المسؤولين الأميركيِّين تأكيده أنّ لا مصلحة للولايات المتحدة الأميركية في تصعيد الوضع في لبنان، محذّراً من أنّ للولايات المتحدة الكثير ممّا يمكن أن تخسره في لبنان إذا ما انزلق الوضع إلى تصعيد وحرب وجديدة.
ورداً على سؤال أوضح: «كل شيء متوقع من إسرائيل، والوضع بلا أدنى شك صعب جداً، لكن لا أقول إنّنا على أبواب حرب وتصعيد واسع، لأنّ إسرائيل منذ اتفاق وقف إطلاق النار، ماضية في حربها على لبنان، وتقوم بما تريده، تستبيح الأجواء، وتعتدي وتغتال بكل حرّية ومن دون أكلاف، مطمئنّة لعدم وجود رادع لها، وعدم قيام لجنة «الميكانيزم» بدورها كما هو محدّد لها في مهمّتها الموكلة إليها، ولا يعنيها شيء اسمه اتفاق وقف إطلاق النار أو القرار 1701 أو قوات يونيفيل» (يشار في هذا السياق إلى التأكيد المتجدّد لليونيفيل أمس، بـ«أن إسرائيل تنتهك الخط الأزرق والقرار 1701 وتمنع الجيش اللبناني من الانتشار في الجنوب»).
مرحلة ضغوط
إلّا أنّه على رغم من إشارات التقليل من احتمالات التصعيد، تحدّثت مصادر فرنسية عمّا وصفتها «مخاوف جدّية على الوضع في جنوب لبنان، واستمرار إسرائيل في استهدافها للمناطق اللبنانية»، معتبرةً أنّ من الضروري جداً الإنطلاق عملياً في مسار حصر السلاح بيَد الدولة اللبنانية». ويلاقي الموقف الفرنسي صورة أكثر تشاؤماً، ترسمها معلومات ديبلوماسية غربية نُقِلت إلى مسؤول رفيع، تُحذِّر من ظروف صعبة، وتُنبِّه من أنّ لبنان قد يكون مُقبِلاً على مرحلة من الضغوط القاسية، ما يوجب استعجال الخطوات التنفيذيّة لقرار الحكومة اللبنانية بسحب سلاح «حزب الله».














