| رنا منصور |
الجميع يتمترس أمام الهاتف، يقلب في صفحات المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، بانتظار أي تهديد يصدره عبر حسابه على منصة “إكس”، يطالب فيه سكان الضاحية الجنوبية وقرى الجنوب، مغادرة المناطق المحددة في خريطته المعلنة، مدّعيًا وجود منشآت ومصالح تابعة لـ”حزب الله” في تلك المواقع.
حالة من الهلع والارتباك
يرافق هذا الإعلان حالة من الذعر والارتباك بين سكان الضاحية الجنوبية، إذ انهم يتدفقون إلى الطرقات محاولين الهروب من المناطق المهددة، والبعض يقف يشاهد منزله يهدم أمام عينيه!
ومع كل ليلة دامية تشهد غارات معادية مكثفة على المباني والشوارع، يضطر السكان الذين نزحوا قسرًا بسبب العدوان للعودة في الصباح الباكر لتنظيف منازلهم وترتيبها، محاولين الحفاظ على ما تبقى من حياتهم الطبيعية، إن لم يكن مبناهم هو المستهدف.
تحولت الخريطة التي نشرها أدرعي إلى “نقطة حمراء” تؤرق الجميع، حيث يتسمر النازحون أمام شاشات التلفاز في حالة ترقب، ينتظرون الغارات المرتقبة التي تستهدف مباني قد تكون منازلهم ضمنها.
يعيش الناس في خوف دائم، يحاولون تخمين ما إذا كان منزلهم أو محيطهم ضمن نطاق التهديدات المعلنة.
الأهداف الخفية للتحذيرات
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الهدف الحقيقي وراء هذه التحذيرات التي يصدرها العدو الإسرائيلي؟
من الواضح أن جيش الاحتلال لا يأبه بأرواح المدنيين، ولا يقرب الإنسانية من أي اتجاه، ليقال إن هذا حقناً للدماء، لأنه في الوقت الذي ينذر فيه مبنى في الضاحية، يقصف مبنى آخر في البقاع، يودي بحياة عشرات المدنيين، أو استهداف مبنى في “مناطق آمنة”، يضم مواطنين نزحوا من تحت النار.
إذًا، فإن هذه التحذيرات ليست سوى جزء من استراتيجية الحرب النفسية التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب اللبناني، حيث يعمل الإحتلال الإسرائيلي، على اللعب على أعصاب الناس، ليعيشوا أطول فكرة ممكنة من الرعب والخوف والقلق، حتى يستنزف طاقة كل الذين يمتلكون منازل في الضاحية، ما يؤدي إلى إرهاق الناس نفسياً، وهي وسيلة لتقليب بيئة المقاومة، على القيادة وتسيير الرأي العام ضد “الحرب”.
كذلك، يتسلح العدو الإسرائيلي، بذريعة حماية المدنيين، عبر انذارهم بالإخلاء، ليحمل الحجة أمام المجتمع الدولي، ويحمي نسفه من ادعاءات جرائم الحرب والإنسانية، فيعمل على قصف مبنى بانذار مسبق، و 10 آخرين بدون إنذار.
وطبعاً، في ظل مجتمع دولي متحيز وغير منصف، سيتناسى المعنيون، أرواح أكثر من 3 آلاف مدني بينهم أطفال ونساء، زهقت في هذا العدوان الجوي الذي يشنه العدو الإسرائيلي على كل لبنان.
التكنولوجيا في خدمة الحرب
من المؤكد أن هذه التحذيرات ليست عشوائية، بل يتم استخدامها كوسيلة لجمع المعلومات وتحديث قاعدة البيانات “الإسرائيلية” عن الأهداف المحتملة.
فعند إطلاق التحذير، تكون الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة في حالة استنفار كامل فوق المنطقة المحددة، تعمل على تتبع تحركات السيارات، الأفراد، وأجهزة الاتصال.
تقوم الوحدات الاستخباراتية برصد كل ما يجري في المنطقة المستهدفة.
على سبيل المثال:
يتم تسجيل عدد السيارات التي تصل إلى الموقع وتغادره، تستخدم الطائرات المسيرة أنظمة متقدمة للمراقبة، حيث يتم مطابقة تحركات السيارات مع بيانات سابقة، بما في ذلك تاريخ تحركات السيارة، وإذا ثبت مرورها بمواقع مرتبطة بـ”حزب الله”، تُضاف السيارة وصاحبها إلى قائمة الأهداف.
يتم مسح الهواتف المحمولة وربطها بأصحابها، وفي حال ثبت أن صاحب الهاتف هدف محتمل، يتم اختراق جهازه للحصول على بيانات إضافية، مثل سجل المواقع، الاتصالات، وحتى تفعيل الكاميرا والميكروفون.
أبعاد الاختراق التكنولوجي
تتعدى عملية المراقبة السيارات والهواتف، لتشمل أجهزة التلفاز والحواسيب، حيث تقوم الطائرات المسيرة بمحاولة اختراق الكاميرات والميكروفونات للحصول على صورة أوضح لما يحدث داخل المنازل.
كما يتم تتبع التحركات الحرارية للسكان الذين يفرون من المناطق المهددة حتى وصولهم إلى وجهتهم الجديدة.
إضافة إلى ذلك، تعمل أجهزة التتبع الصهيونية، على مراقبة المحداثات التي تجري بين اللبانيين عن المواقع المهددة، والمعلومات التي يتداولوها بين بعضهم البعض في محاولة تهديد موقع المبنى المستهدف.
وعلى الرغم من ادعاءات الاحتلال بأنه يلتزم بتحذير المدنيين، فإن هذه التحذيرات لا تعفيه من المسؤولية القانونية والإنسانية.
فقد أكدت منظمة العفو الدولية أن “إسرائيل” ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني، باتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين وتجنب إلحاق الضرر بهم.
لكن في الواقع، يصدر العدو هذه التحذيرات غالبًا في ساعات متأخرة من الليل، عندما يكون السكان نائمين، ما يجعلهم غير قادرين على سماع التحذيرات أو الاستجابة لها.
تحذيرات كاذبة.. وأهداف متعددة
من الواضح أن الاحتلال الإسرائيلي يستخدم هذه التحذيرات كجزء من استراتيجيته التكنولوجية المتقدمة لتحقيق عدة أهداف:
تحديث قاعدة بيانات الأهداف المحتملة.
خلق حالة من الرعب والارتباك بين السكان.
تجميل صورته أمام المجتمع الدولي بادعاء الحرص على حياة المدنيين.
بات واضحًا أن تحذيرات العدو الإسرائيلي ليست سوى فخ يستخدمه لجمع المعلومات وتحديث الأهداف عبر استغلال التطور التكنولوجي.
كما أن الحرب النفسية التي يمارسها الاحتلال هي جزء لا يتجزأ من العدوان المستمر، الذي يتعدى تدمير البنية التحتية إلى تدمير النفوس وزرع الخوف والشك بين الناس.
إلا أنه على اللبنانيين يتكاتفوا لمواجهة هذه الحرب النفسية والإعلامية التي لا تقل خطورة عن القصف المباشر، فالعدو الذي يتظاهر بالحرص على حياة المدنيين، هو ذاته الذي لا يتوانى عن استهدافهم في منازلهم، محوّلًا التكنولوجيا المتقدمة إلى سلاح يفتك بالإنسانية.