| طوني عيسى |
أياً يكن توصيف ما جرى فجر الأحد، فإنه أقفل مشهداً وفتح الباب على مشهد آخر في الصراع الدائر. وفي الأيام القليلة المقبلة، ستتكشف ملامح هذا المشهد.
لا يخلو اشتباك 25 آب من الغموض. فالطرفان المعنيان أطلقا خلاله كميات من الضجيج والدخان تفوق بكثير كميات الدمار والدم، هنا وهناك. وهذا ما دفع كثيرين إلى التساؤل عن طبيعة ما جرى، وتالياً عن النتائج الحقيقية والاستهدافات.
رواية الوقائع لا خلاف عليها في المنطلق: كان “حزب الله” قد خطط للرد على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر بضرب أهداف عسكرية استراتيجية في العمق الإسرائيلي، وحدد الموعد عند الخامسة، فـ”اشتلق” “الإسرائيليون” على العملية أو “اعتلموها”، ونفذوا غارات جوية كثيفة على أهداف في مناطق لبنانية عديدة، قبل ثلث ساعة من موعد العملية، بهدف إحباطها.
حتى هذه النقطة، لا خلاف في الرواية. لكن التناقض الحادّ في بقية القصة يدعو إلى الاستغراب. فالإسرائيليون يقولون إن صواريخ “الحزب” ومسيّراته لم تصل إلى أهدافها، وأن غاراتهم المبكرة دمرت له 1000 منصة كانت مجهزة لتنفيذ العملية. وفي المقابل، يقول “الحزب” إنه نجح في إصابة المواقع الاستخبارية الإسرائيلية المستهدفة، وأنه لم يخسر في الغارات سوى منصتين. وفي أي حال، لم تظهر نتائج العمليات العسكرية لا في لبنان ولا في “إسرائيل”، خلافاً لما يجري في العادة، إذ من مصلحة كل الأطراف أن يبرزوا إنجازاتهم لقطف ثمارها سياسياً.
بعض المحللين في الغرب يقولون إن “حزب الله” كان يبحث عن سبيل لاستعادة معنوياته التي اهتزت نتيجة اغتيال شكر والعدد الكبير من الكوادر والمقاتلين على مدى 10 أشهر أظهر فيها الإسرائيليون تفوقاً في مجال الرصد والمعلوماتية. وقد حققت له عملية الأحد هذه الغاية. وفي المقابل، كان بنيامين نتنياهو حاسماً في تهديداته: إذا نفذ “حزب الله” رداً نوعياً، فإنه سيتلقى ضربات ساحقة ماحقة هذه المرة.
لكن الغموض الذي يكتنف النتائج هنا وهناك يسمح بطرح احتمالات عدة في توصيف ما جرى وتَوقُّع نتائجه السياسية:
1ـ أن تكون مسيّرات “الحزب” قد فشلت فعلاً في بلوغ أهدافها، فلم يجد “الإسرائيليون” أن الأمر يستحق الرد العنيف الذي يلوحون به.
2ـ أن تكون المسيّرات قد أصابت فعلاً أهدافاً استخبارية حساسة يمتنع الإسرائيليون عن كشفها، لكنهم فضلوا عدم الرد. وإذا ما صح هذا الاحتمال، فهو يعني أن التهديدات المتمادية التي يطلقها الإسرائيليون ليست في الواقع سوى فقاعات هوائية للضغط نفسياً على “الحزب”.
3 ـ أن “الإسرائيليين” سيردون على “الحزب”، ولكن “في التوقيت والمكان المناسبين”. أي إن الرد القاسي قد يحصل فجأة، وفي أي لحظة.
4 ـ أن “إسرائيل” مستعدة عسكرياً لتنفيذ ردها التدميري فوراً، لكنها في الواقع قررت اعتماد تكتيك سياسي. فهي وجدت الفرصة مؤاتية لمساعدة “الحزب” على النزول عن شجرة التصعيد ومفاوضته حول تسوية تحقق فيها الأهداف المرتجاة مع لبنان، من دون الاضطرار إلى خوض حرب كبرى، إذا أمكن. ويذهب بعض المحللين إلى القول أن ما جرى الأحد هو سيناريو تم ترتيبه لفتح باب المفاوضات حول لبنان، في موازاة المفاوضات حول غزة. لكن آخرين يعتبرون أن هناك مبالغة في الحديث عن سيناريو متوافق عليه.
في أي حال، وبمعزل عن فرضية “السيناريو المدبر”، من الوارد جداً أن يكون الطرفان المعنيان في صدد الاستفادة من الحدث العسكري للعودة إلى التفاوض. ولجوء كل منهما إلى تضخيم انجازاته العسكرية يراد منه رفع المعنويات بالمقدار الذي يؤهله القبول بالأخذ والرد.
هذا لا يعني أن “الإسرائيليين” سيوافقون على تطبيع الوضع على حدود لبنان قبل ضمان أمن الشمال. كما لا يعني أن “حزب الله” سيوافق على وقف الحرب جنوباً إذا استمرت في غزة.
إنها عودة إلى “ستاتيكو” ما قبل اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفيه مساحة لعودة عاموس هوكشتاين إلى الوساطة، ورقصٌ على حافة الهاوية. فإما الصفقة وإما الصفعة.