“كاتب بالعدل” يتوسّل الإسرائيليين: جَنِّدوني!

كشفت التحقيقات مع كاتب عدل بتهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي، دلائل كثيرة على تورطه، ما دفع قاضي التحقيق العسكري فادي عقيقي للإدعاء عليه.

التفاصيل الدقيقة للتحقيقات، أماطت اللثام عن شخصية كرتونية للموقوف أنطوان جرمانوس، الذي شغل منصب مستشار وزير العدل السابق ايراهيم نجار الذي كان يمثّل القوات اللبنانية في الحكومة آنذاك.

بحسب مقال للإعلامي غسان سعود في موقع “الميادين”، فقد اكتشف الأمن العام اللبناني إرسال أنطوان جرمانوس، 17 مرة، رسائل نصية من رقم هاتفه اللبناني إلى رقم إسرائيلي

وفي رواية “الميادين”: “في قسم التحقيقات، في الطابق الخامس من مبنى جريدة “النهار”، كانت حماسة أصغر الصحافيين الشبان، أنطوان جرمانوس، تطغو في صخبها على كل الأصوات. شابّ مرح ومندفع، لا يتسع العالم لبهجته”.

كان ذلك عام 2005؛ عام التحولات الكبرى في المشهد السياسيّ اللبناني. وغاب من بعده عامَين، ليعود مع إجازة حقوق من الجامعة اليسوعية، قبل أن يعيَّن مستشاراً إعلامياً وسياسياً لوزير القوات اللبنانية إبراهيم نجار، الذي حُمِّل حقيبة العدل. وبعيد شهور قليلة عُيِّن كاتباً للعدل.

ابن بلدة العاقورة الجبيلية يتحدّر من أسرة متواضعة مالياً. والده أستاذ جامعيّ متقاعد، ووالدته أستاذة أدب عربيّ متقاعدة أيضاً، لكنه أحسن اختيار مكان مكتبه ككاتب للعدل (في أوتوستراد جل الديب)، محصِّناً نفسه بشبكة واسعة جداً من العلاقات، على نحو سمح لمكتبه بتجاوز النِّسَب الطبيعية للمعاملات، الأمر الذي مكّنه من تكوين ثروة كبيرة خلال فترة قياسية. ومع ذلك، فإن الشابّ الذي انتقل من منزل أهله (في بلدة الحازمية) إلى حيّ سرسق الفاخر في الأشرفية، لم يتمتع بلحظة استقرار واحدة، سواء مهنياً، أو سياسياً، أو عائلياً.

أخيراً، اكتشفت الأجهزة الأمنية (تحديداً الأمن العام الذي بذل جهداً مميزاً، وحقق إنجازاً بالكشف عن الملف) إرساله، سبع عشرة مرة، رسائل نصية من رقم هاتفه اللبناني إلى رقم إسرائيلي، بين الـ21 والـ24 من نيسان/أبريل 2020. وتضمّنت الرسائل جميعها الكلمة نفسها: HI. أُوقف جرمانوس، وحُقِّق معه. وُوْجِه بحقائق وأدلة لا يمكن نكرانها، لكنه أكد أنه لا يتذكر الحادثة، أو ما جرى، أو علاقته بالرقم الإسرائيلي، أو إذا كانت هذه الرسائل ترمز إلى شيء ما.

وعند البحث أكثر، تبيّن أن جرمانوس يحتفظ بالرقم الإسرائيليّ، الذي سبق أن أرسل إليه الرسائل النصية من هاتفه اللبناني. وهو يُدير، عبر هذا الرقم الإسرائيليّ، حساباً في مواقع التواصل الاجتماعي (“فايسبوك”)، في اكتشاف مثّل سابقة أمنية لجهة استخدام خط هاتف إسرائيليّ بصورة مباشرة.

ومع التوسع في التحقيق، تبيّن أن جرمانوس قال لأحد محاوريه الإسرائيليين إنه ما كان ليتردد في الذهاب إلى “تل أبيب” والمجيء منها، لو كان لديه مركب بحري، مؤكداً محاولته الحثيثة، طوال 3 أعوام، الوصول إلى أحد النافذين في الحكومة الإسرائيلية من أجل “تغيير الواقع اللبناني”، لكنه لم ينجح في ذلك.

وفي التحقيق معه، أكد جرمانوس أنه زار الولايات المتحدة الأميركية بصفته مستشاراً لوزير القوات اللبنانية السابق، إبراهيم نجار، بحيث التقى مسؤولاً في الحكومة الأميركية، وتحاور معه في الشأن اللبناني. وذكر له محاوره الأميركي أنه حاول جاهداً التواصل مع أحد مسؤولي حكومة الاحتلال الإسرائيلي، لكنه لم يوفَّق في ذلك. واعترف جرمانوس بإرساله تسجيلاً صوتياً إلى المسؤول الأميركي، يطلب منه فيه “ربطه” بالسفارة الأميركية في “تل أبيب”، للعمل إلى جانب الإسرائيليين، كونه لا يستطيع التواصل مباشرة معهم. أمّا الغاية من كل ذلك، فهي تغيير الواقع اللبناني.

وخلال التحقيق، أكد جرمانوس أنه سعى، عبر جميع الوسائل، لـ”تحقيق مصلحة لبنان عبر تحقيق السلام مع إسرائيل”، نافياً وجود أي انتماء حزبي مباشِر له، على الرغم من تأييده “ثقافة 14 آذار” بصورة عامة، والقوات اللبنانية بصورة خاصة. أمّا “مشروعي السياسي والتغييري فيتمّ بالتنسيق الشخصي مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، على الرغم من عدم انتمائي الرسمي إلى القوات”.

وهو نفى تلقيه أيَّ دعم مالي أو طلبه الدعم المالي. أمّا الدعم المعنوي فيأتيه من “مكانتي المميزة لدى الدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري وعدة سياسيين آخرين”. وفي المقابل، نفى جرمانوس أن يكون جعجع على علم بأنشطته، أو على اطّلاع عليها، وخصوصاً السعي الحثيث للتواصل مع مسؤولي حكومة العدو الإسرائيلي.

من جهة أخرى، أشار جرمانوس إلى تسجيل نفسه في كثير من الدورات الأمنية الأميركية عن ُبعد، وتنزيله تطبيقات كثيرة تسمح له بتحسين صورته أمام وزارة الدفاع الأميركية، وإظهار نفسه سياسياً مؤيداً للولايات المتحدة، في موازاة نفيه تكليفه أيَّ مُهمّات أمنية لمصلحة الاستخبارات الخارجية، سواء الأميركية أو الإسرائيلية، مع العلم بأن التدقيق في هاتفه الخلوي أظهر وجود أرقام لكل من شركة هاتف إسرائيلية، وشركة تأمين وصحيفة إسرائيليتين وصيدلية إسرائيلية، في ظل نفيه القيام بأي زيارة لـ”إسرائيل”، علماً أيضاً بأنه سجّل نفسه، في أحد هواتفه الخلوية، بصفته إسرائيلياً، مستخدماً عنوان سكن إسرائيليّاً. وهو لم يترك صحيفة إسرائيلية، أو وسيلة إعلام إسرائيلية مخصَّصة للأخبار العاجلة الخاصة بالكيان الإسرائيلي، إلاّ وحمّل تطبيقها، على نحو لا يفعله حتى أكثر المتحمسين للشأن الإسرائيلي.

وفي إحدى جلسات التحقيق، قال جرمانوس إنه تواصل مع أحد مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بصفته مستشاراً لوزير العدل اللبناني إبراهيم نجار، وحاول إقناعه بوجوب تدخُّل الخارجية الأميركية من أجل تعيينه وزيراً في لبنان، بعد أن أعلمه المنجّم ميشال حايك بأن لديه مستقلاً باهراً، مع العلم بأنه يحمل رقم هاتف بريطانياً، وآخر أميركيّاً، إلى جانب اللبنانيّ والإسرائيليّ.

وشملت التحقيقات معه جوانب شخصية، لها علاقة بحياة جرمانوس، اجتماعياً وجنسياً. ومع إحالة الملف في الـ20 من كانون الأول الماضي على النيابة العامة العسكرية، بدأت الملاحقة القضائية ليقرّر القاضي فادي عقيقي في الـ7 من شباط/فبراير توقيف جرمانوس رسمياً بموجب جرم التواصل مع العدو والعمل من أجل التطبيع معه.

التحقيق الأوليّ يُظهر جرمانوس شخصيةً غير جديّة، ويركض خلف الإسرائيليِّين والأميركيِّين، ويرجوهم أن يجنّدوه، بينما هم لا يبالون به من قريب أو بعيد. ومع ذلك، فإن الرقم الإسرائيلي والرسائل الموجودة في الهاتف، تفتح الباب أمام التوسُّع أكثر في التحقيق، إلاّ إذا تكثّفت الضغوط، وخصوصاً أن قريب جرمانوس هو رئيس المحكمة العسكرية السابق بيتر جرمانوس، الذي يتشارك مع قريبه في كثير من التوجهات السياسية، وهو فَقَدَ توازنه السياسيّ بالكامل منذ فترة ليست بعيدة.