“نبوءات” كيسنجر و”عقل” البيت الأبيض: مئة عام من “الدهاء”

| الجريدة |

“باحث ورجل دولة ودبلوماسي شهير وصاحب مواقف غيرت شكل العالم”، هكذا عرف هنري كيسنجر، الذي كان يتمتع بسلطة لا مثيل لها بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، قبل وفاته، عن 100 عام، في منزله بولاية كونيتيكت.

في كانون الثاني 1969، انضم كيسنجر إلى البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون، كمستشار للأمن القومي، وبعد تعيينه وزيرا للخارجية في عام 1973، احتفظ بكلا المنصبين.

وكيسنجر هو الشخص الوحيد على الإطلاق الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض ووزير الخارجية في نفس الوقت، ولذلك فقد مارس سيطرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة نادراً ما يعادلها أي شخص لم يكن رئيسا، وفق تقرير لصحيفة “واشنطن بوست”.

وعندما عينه الرئيس نيكسون مستشارا للأمن القومي، خطط كيسنجر حينها لزيارتين اتسمتا بأهمية كبرى إلى الصين والاتحاد السوفياتي عام 1972.

وبات كيسنجر أول أميركي وُلد خارج الولايات المتحدة، يتولى منصب وزير الخارجية، واستمر في المنصب حتى بعد استقالة نيكسون، وقدوم جيرالد فورد.

وفي عام 2014، قال جون كيري، الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك: “هنري كيسنجر… كتب حرفيا كتابا عن الدبلوماسية”.

وأضاف “لقد أعطانا كيسنجر، مفردات الدبلوماسية الحديثة، وهي عبارة الدبلوماسية المكوكية والصبر الاستراتيجي”.

وكان كيسنجر “مهندس” انفتاح الولايات المتحدة على الصين، وتفاوض على خروجها من فيتنام، وإعادة تشكيل علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي في ذروة الحرب الباردة، وفق تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”.

وأطلق كيسنجر عجلة التقارب بين واشنطن وكل من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي وقد حاز في 1973، تقديراً لجهوده السلمية خلال حرب فيتنام، جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الفيتنامي، لي دوك ثو.

 

الدبلوماسية “السرية”

ومن بين إنجازات كيسنجر الدائمة الإشراف على “التواصل السري” لإدارة نيكسون في أوائل السبعينيات مع الصين، مما أدى إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين واشنطن وبكين، حسبما يشير تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”.

وينسب إلى كسينجر الفضل في تشكيل “الدبلوماسية السرية” التي ساعدت الولايات المتحدة في عهد نيكسون، على الانفتاح على الصين، وفق تقرير لشبكة “سي إن إن” الإخبارية.

وهو ما أبرزته زيارة نيكسون للصين في عام 1972.

وأدت المفاوضات السرية التي أجراها كيسنجر مع ما كان يسمى آنذاك بـ”الصين الحمراء” إلى إنجاز نيكسون الأكثر شهرة في السياسة الخارجية.

وكان المقصود منها أن تكون خطوة حاسمة في “الحرب الباردة” لعزل الاتحاد السوفياتي.

وكان لهذا التنفيذ لـ”الدبلوماسي السرية”، الدور الأكبر في المساعدة على قلب التوازن العالمي ضد الاتحاد السوفياتي وتسريع اندماج بكين في الاقتصاد الدولي.

وأعاد كيسنجر العلاقات مع الصين في السبعينيات بعد “زيارة سرية” عام 1971 مهدت الطريق لأخرى تاريخية للرئيس نيكسون في العام التالي.

وفي رحلة إلى باكستان، أفلت كيسنجر من الصحفيين المتجولين بالتظاهر بالمرض وسافر سراً إلى بكين لتأمين الدعوة الرئاسية، الأمر الذي أذهل العالم عندما أُعلن عنها.

وشهد شهر شباط 1972، الحدث الذي أعاد تشكيل توازن القوى العالمي، فقد كان نيكسون، الذي بنى مسيرته السياسية على معارضة الشيوعية، يرغب منذ فترة طويلة في الذهاب إلى الصين، وكان الصينيون على استعداد لذلك.

وقد أنتجت هذه الرحلة، من بين أمور أخرى، “بيان شنغهاي”، الذي اعترفت فيه الولايات المتحدة بأن “تايوان جزء من الصين”.

كما اتفقت الدولتان على أنه بمجرد ترسيخ هذا المبدأ، فإنهما “لن تفعلا أي شيء لتغيير وضع تايوان شبه المستقل”.

ولا يزال هذا هو أساس السياسة الأميركية والصينية بشأن تايوان.

نهج “الواقعية السياسية”

وكان نهج الانفراج والواقعية السياسية الذي اتبعه كيسنجر في التعامل مع العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، قد ساعد في تخفيف التوترات وأدى إلى العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة، هو الذي قاد الموقف الأميركي إلى حد كبير حتى عهد ريغان.

وكان كيسنجر ممارساً لشكل من أشكال فن الحكم الدولي يسمى السياسة الواقعية، والتي يقول منتقدوه إنها وضعت هدف موازنة مصالح القوى العالمية فوق مساعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، حسبما تشير “وول ستريت جورنال”.

وتمكنت واشنطن بسياساته من اتخاذ قرار الخروج من فيتنام التي تكبدت فيها خسائر فادحة، في صراع غير مباشر مع موسكو آنذاك.

ومن بين إنجازات كيسنجر الأخرى معاهدة الحد من الأسلحة “سولت 1” لعام 1972 مع الاتحاد السوفياتي، والتي تم التفاوض عليها عندما كانت القوتان العظميان النوويتان منخرطتين في حرب باردة وتواجه كل منهما الأخرى في حروب بالوكالة في جميع أنحاء العالم.

وتضع اتفاقيات “سولت” قيوداً على أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ الباليستية وعلى نشر الصواريخ الهجومية وتلزم البلدين فعليا بـ”الانفراج بدلاً من المواجهة”.

وباعتباره مهندس “انفتاح” نيكسون التاريخي على الصين، وباعتباره صورة للانفراج مع الاتحاد السوفياتي، حاز كيسنجر على الدور الكبير في التحولات السياسية الزلزالية التي أعادت توجيه مسار الشؤون العالمية.

الدبلوماسية “المكوكية”

في الشرق الأوسط، شكل كيسنجر ما يعرف باسم “الدبلوماسية المكوكية” للفصل بين القوات “الإسرائيلية” والجيوش العربية بعد تداعيات حرب تشرين عام 1973.

واندلع هذا الصراع بعد أسبوعين من أداء كيسنجر اليمين كوزير للخارجية مع احتفاظه بمنصبه في البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي.

وكانت حرب الستة عشر يوما التي بدأت في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، بهجمات منسقة على قوات الاحتلال والمستعمرات الإسرائيلية من قبل مصر وسوريا، أصعب الاختبارات في حياة كيسنجر المهنية.

وهددت الحرب وجود الكيان الإسرائيلي، وأشعلت مواجهة مع الاتحاد السوفياتي، وألهمت السعودية وغيرها من المصدرين العرب لفرض حظر نفطي أدى إلى شل تدفق الوقود في العالم.

وتفاوض كيسنجر على إنهاء حرب تشرين عام 1973 التي أشعلتها الهجمات المشتركة بين مصر وسوريا على الكيان الإسرائيلي، يوم عيد “الغفران”.

وجاء وقف إطلاق النار في أعقاب الجسر الجوي الأميركي المثير للأسلحة إلى الكيان العبري والذي أثبت أهميته لدرء التقدم الأولي للجيوش العربية.

كان هو ومسؤولون أميركيون آخرون يشعرون بالقلق من أن الصراع قد يتصاعد إلى أول صراع عسكري مباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، الذي كان الراعي الرئيسي للقاهرة ودمشق.

وفي النهاية، انتهى القتال عندما وافق الرئيس المصري أنور السادات، على إجراء محادثات عسكرية مباشرة مع “الإسرائيليين”، فتمت اتفاقية “كامب ديفد” التي اتسمت بأنها معاهدة “السلام” الأولى بين دولة عربية “مصر”، وكيان الاحتلال.

وكان كيسنجر قادراً على الحفاظ على أساسيات “الانفراج” مع استبعاد السوفيات من مفاوضات “السلام” التي تلت ذلك.

ومن أجل تمديد وقف إطلاق النار الهش وتحقيق الاستقرار في العلاقات بين العدو الإسرائيلي والدول العربية، نفذ كيسنجر العديد من المهمات الدبلوماسية.

وابتداءً من كانون الثاني 1974، ذهب إلى الشرق الأوسط 11 مرة للترويج لاتفاقيات فض الاشتباك العسكري التي من شأنها تسهيل حقبة جديدة من مفاوضات “السلام”.

وكانت أكثر مهمات “الدبلوماسية المكوكية” شهرة هي “الماراثون” الذي استمر 34 يوما في ذلك الربيع، حيث زار القدس 16 مرة ودمشق 15 مرة، وسافر إلى ستة دول أيضاً.

لم تسفر هذه “الماراثونات” عن أي اتفاقات “سلام دائمة” خلال فترة تولي كيسنجر مهام منصبه، لكنها نجحت في خلق حالة “الأحادية القطبية المحصورة بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مع استبعاد الاتحاد السوفياتي.

وخلال السنوات الثماني التي قضاها في الخدمة الحكومية، والتي امتدت من عام 1969 حتى عام 1977، منح الرئيس الأميركي السابق، جيرالد فورد، كيسنجر وسام الحرية الرئاسي.

وظل كيسنجر حتى وفاته فاعلاً على الساحة السياسية الدولية ولم يثنه تقدمه في السن عن السفر ولقاء العديد من قادة العالم، وكان آخرهم الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الذي التقاه في تموز الفائت في الصين.

كما ترك كيسنجر العديد من المؤلفات السياسية، التي تعتبر مرجعاً في عالم الدبلوماسية وهي:
1. الدبلوماسية من الحرب الباردة حتى يومنا هذا – هنري كيسنجر

2. النظام العالمي

3. سنوات التجديد المجلد المستخلص لمذكراته

4. مذكرات هنري كيسنجر ج1

5. مذكرات هنري كيسنجر ج2