أميركا و”إسرائيل” تهربان من الهزيمة: إلى الحرب الهجينة دُر

| يحيى دبوق |

تُواصل “إسرائيل” سعيها إلى تحقيق جملة أهداف، من حرب يُفترض أن نهاية مرحلتها العسكرية الصاخبة، باتت وشيكة. ولعلّ جزءاً من هذه الأهداف قد تحقَّق بالفعل، ومنها تدفيع المدنيين الفلسطينيين ثمناً كبيراً، قتلاً وتدميراً وتهجيراً، فيما يبدو مستحيلاً تحقُّق هدفها العسكري، والقاضي بـ”اجتثاث” حركة “حماس”، ذلك أن الأخيرة باقية ما بقي الفلسطينيون أنفسهم. أمّا ما يمكن أن ينجزه العدو، في حال كان جاهزاً لدفع ثمن كبير، فهو تفكيك ما أمكن من القدرة العسكرية لـ”حماس”، عبر تصفية واعتقال معظم الكادر البشري العسكري فيها، مسؤولين وأفراداً، إلى جانب تدمير الوسائل القتالية والبنية التحتية العسكرية والأمنية لديها على اختلافها. إلّا أن ما حدث إلى الآن، لا يشير إلى استعداد “إسرائيلي” لدفع أثمان باهظة من هذا النوع، على رغم أهميّة الهدف الأخير وتقدّمه في سُلَّم الأولويات “الإسرائيلية”.

وفي الموازاة، فإن ما يُشتغل على تحقيقه من ضربٍ لحكم “حماس” في غزة، يسير ببطء، ولم يغادر بعد دائرة الممكن، علماً أن البحث عن البدائل، وليس في البدائل، ما زال موضع تجاذب “إسرائيلي – إسرائيلي”، وأميركي – “إسرائيلي”، وأميركي – إقليمي، في ظلّ العجز إلى الآن عن إيجاد بديل معقول وعملي وممكن، على رغم كثرة السيناريوات والفرضيات المطروحة لليوم الذي يلي حُكم الحركة. ومن بين ما لم يتحقَّق لـ”إسرائيل” أيضاً، وإنْ كان ظاهر الأمور يشير إلى نتائج نسبية، هو المرتبط بمسعى استرجاع الهيبة وإعادة مستوى الردع، ليس إلى ما كان عليه عشية السابع من أكتوبر، بل إلى ما يزيد عنه أضعافاً مضاعفة. ولعلّ هذا الهدف يُعدّ الأهمّ بالنسبة إلى “إسرائيل”، لارتباطه ليس بالساحة الفلسطينية في غزة فحسب، بل بالداخل “الإسرائيلي”، وثقة المستوطنين بقادتهم، وبأمنهم الشخصي والعام، كما ثقة الحلفاء بالكيان ودوره وقدرته على تحقيق مصالحهم، فضلاً عن مكانته في وعي حلفائه الجدد في الإقليم، وغير ذلك ممّا لا يمكن حصره.

باختصار، أرادت تل أبيب – وما زالت تسعى إلى الآن، على رغم عودتها إلى إدراك الواقع كما هو -، انتصاراً ساحقاً غير قابل للتأويل في غزة، سريعاً وكاملاً ولا لبس فيه، ومن سماته تحرير جميع الأسرى، والقضاء التام على “حماس”، على أن يُستتبع لاحقاً، حتى من دون قتال بل بالاستناد فقط إلى ما تتصوّره “إسرائيل” من ردع متحقّق بفعل ما حلّ بغزة، بإخراج “حزب الله” من السياج الحدودي في لبنان إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني، الأمر الذي يتيح العودة التلقائية للمستوطنين إلى مستوطنات غلاف غزة، وتلك المحاذية للحدود اللبنانية. ولكن، هل حقّقت “إسرائيل” أهدافها تلك؟ الجواب هو لا كبيرة جداً. وعلى هذه الخلفية، يمكن فهم امتناع تل أبيب، ورعاتها الأميركيين، عن القبول بوقفٍ كامل لإطلاق النار. كما يفسّر ذلك ما قاله وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، وقبله رئيس الحكومة “الإسرائيلية”، بنيامين نتنياهو، من أن “وقفُ إطلاق النار يعني عمليّاً إعلان انتصار حركة حماس”.

وفي ظلّ السعي “الإسرائيلي” إلى تحقيق ما أمكن من نتائج بلا أثمان في العملية البرية التي طالت إلى الحدّ الذي باتت معه نتائجها عكسية، جنباً إلى جنب مساعي الولايات المتحدة إلى إيجاد صيغ ممكنة لليوم الذي يلي حكم “حماس”، لا تزال المراوحة الميدانية والسياسية هي الطاغية على المشهد. واللافت في هذه الحرب، أن أطرافها الغربيين، كلّهم، يراهنون على الصمود والمثابرة، والمزيد من الشيء نفسه، لتحقيق النتائج المرجوّة. فـ”إسرائيل” تريد أن تواصل جهدها الحربي على ما هو عليه، مع الرهان على إخراج “حماس” من شمال غزة، كما خرجت قبلها “منظمة التحرير الفلسطينية”، عام 1982، من بيروت. ومن جهتها، تتطلّع الولايات المتحدة إلى ما هو أبعد، إذ إنها معنيّة بأن تحقّق خلال الحرب وبعدها كلّ المصالح “الإسرائيلية”، والأميركية بطبيعة الحال، لكن ليس على حساب مصالحها الأخرى في المنطقة، مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من أوضاع استراتيجية سيئة للجانبَين، بما يشمل بطبيعة الحال، مصلحة الأنظمة التابعة في الإقليم.

أما من جهة “حماس”، فإنّ الهدف من القتال يختلف عمّا هو لدى “إسرائيل” وأميركا. فالحركة أَنجزت أهدافها منذ اليوم الأول للحرب، وهي الآن تتلقّى ثمن ذلك الإنجاز، الذي تهون معه كلّ الأثمان. إذ وعلى رغم أن واشنطن وتل أبيب تعملان على إظهار “حماس” باعتبارها تنظيماً شبيهاً بـ”داعش”، إلّا أن الحركة حقَّقت في الواقع ما هدفت إليه، وبما يشبه الإعجاز: “إعادة إحياء القضية الفلسطينية”، التي كانت قد دخلت العناية الفائقة. وبين هذا وذاك، يجري العمل “إسرائيليّاً” وأميركيّاً، على ما يمكن تسميته بالحرب الهجينة، ليس لناحية أسلوبها ونطاقها، بل ربطاً بماهيتها نفسها: الإبقاء على الخيار العسكري، مع الإعلان عن وقف الحرب بشكل أو بآخر. وفي حساب النتيجة، فإن الخيار الأخير يعني الإبقاء على القضية الفلسطينية حيّة، ومنع ما كان يخطَّط له من إبادة الفلسطينيين، في حين أن إنهاء الحرب الآن، يعني ترسيخ انتصار حركة “حماس”. وعليه، فالانتصار متحقّق في أيّ من الاتجاهَين.