/ نقولا ناصيف /
ينزلق “حزب الله” الى الحرب الدائرة بين “اسرائيل” و”حماس” أم يبقى على مسافة منها دونما تحييده عنها؟
لا احد يملك ان يجيب تأكيداً او نفياً. للحقائق المتوالية على الارض جواب محدد مقدار ما هو مهيأ للاجتهاد: كل يوم يمر لا يشبه الامس.
ليس خافياً ان “حزب الله”، يوماً تلو آخر، يطوّر دوره في الحرب الدائرة بين “اسرائيل” و”حماس”. ما فعله غداة اندلاعها اضحى على صورة مغايرة تماماً الآن، كما لو انه يتحضر لربط الجبهات على طريق فتح الساحات عندما يحين أوانه.
التصعيد الميداني العالي النبرة في جولات الاحد اعطى الاشارة الاولى الى ان ساحة الحزب ليست في مزارع شبعا فحسب. الحجة التي دافع فيها عن اطلاقه صواريخه في اليوم الاول تصويبها الى منطقة محتلة يملك حقاً شرعياً في المقاومة فيها لتحريرها. في الايام التالية وصولاً الى الاحد الفائت، اضحى الخط الازرق مسرح عملياته دونما ان يقصره على نفسه. انضمت “كتائب القسام” و”الجهاد الاسلامي” الى “حزب الله” على نحو اظهر تقاسم الادوار والجبهات. في الوقت نفسه لا يتوقف الحزب عن تأكيد تمسكه بقواعد الاشتباك المرعية في مزارع شبعا، متأنياً في الانتقال من مرحلة الى اخرى. ذلك ما يجعل موقفه الفعلي لغزاً محيِّراً الى الآن رغم اصراره على انه لن يقف مكتوفاً حيال الهجوم البري على غزة. على طرف نقيض من حرب 2006 التي يستعيد الحزب دروسها باستمرار، وكانت التجربة الاكثر اكتمالاً في مساره واحالته مذذاك قوة اقليمية، لن يستدرج “اسرائيل” الى ارضه كما فعل وقتذاك بأسر جنود اسرائيليين، بل سيذهب اليها في الارض التي تحتلها.
اكثر المُحيِّر في لغزه ان الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله لم يقل بعد كلمته في ما حدث او سيحدث.
يقارب الحزب ما انتهت اليه الايام العشرة الاولى في الحرب الدائرة في “اسرائيل” وغزة تبعاً لمعطيات منها:
1 – مع تمسكه بقواعد الاشتباك في مزارع شبعا، لن يتوقف عن إشغال “اسرائيل” بالجبهة الشمالية لتخفيف الضغط العسكري على غزة، وهو ما يعدّه الحزب الحد الادنى المطلوب في الوقت الحاضر. اخيراً تساوت الجبهات من مزارع شبعا الى الناقورة بعضها مع بعض، وأضحت عنده شريطاً واحداً. لكل منها هدف استخدامها وتوقيته.
2 – يعتقد “حزب الله” ان ثمة تقدّماً في الموقف الغربي من حرب غزة يمهّد لاعادة النظر في كل ما رافق الايام الاولى ما ان مُنحت “اسرائيل” تفويضاً مطلقاً للقضاء على “حماس”. مذذاك سارعت الى التعبير عنه بالطلب من فلسطينيي غزة مغادرتها توطئة لمهاجمة القطاع واحتلاله نهائياً بعد تدميره كلياً. لم تعد الآن الاولوية نفسها. في المواقف الاخيرة للغرب افصح عن احدها الاكثر اهمية الرئيس الاميركي جو بايدن برفضه تهجير غزة، بات المطلوب رد الاعتبار الى الجيش الاسرائيلي وهيبته وسمعته المحلية والاقليمية بالاكتفاء بهجوم بري – لا بالهجوم البري – دونما الوصول الى تهجير غزة. لم يعد القطاع برمته الهدف، بل جزء منه على انه يمثل انتقام “اسرائيل” منه بعدما دمر مدنه.
3 – تصل الى “حزب الله” اصداء ما يقوله سفراء غربيون في بيروت امام المسؤولين اللبنانيين، في محاولة يقترن فيها توجيه رسائل تطلب عدم تورطه في الحرب الدائرة، وفي الوقت نفسه اعتقاد هؤلاء ان حكوماتهم لم يعد يسعها انتظار الحلول العسكرية المدمرة. ما تبصره من تدمير وقتل وحشي في القطاع يحمل حكوماتهم على مقاربة الجانب الانساني في الحرب تلك بتنديدها بخرق القواعد الاخلاقية المتفق عليها في الحروب والمعاهدات الدولية وحقوق الانسان. على ان اياً منهم لم يشر الى ان امتعاضهم تحوّل الى ضغوط مباشرة على اسرائيل. عزز التحوّل هذا تعيين الرئيس الاميركي موفداً خاصاً للمساعدات الانسانية هو الديبلوماسي المخضرم الواسع الالمام بالشرق الاوسط ودوله دافيد ساترفيلد، المشهود له ابان وجوده في سفارة بيروت مطلع التسعينات بعداء غير مشروط لحزب الله. دلّ تعيينه على ان ثمة مؤشراً جديداً الى ان ابواب التفاوض السياسي قابلة للحياة في وقت ما.
4 – في نهاية المطاف ستنتهي حرب 2023 في غزة الى ما انتهت اليه حرب 2006 في لبنان. آنذاك هاجمت “اسرائيل” لبنان بقرار تصفية “حزب الله”، اذا الحرب تنتهي باجلائها وترسيخ بقاء الحزب على ارضه يحتفظ بسلاحه تحتها وفوقها. انتصر حزب الله دونما ان يربح الحرب لمجرد ان حال دون القضاء عليه، وخسرت “اسرائيل” مع انها ربحت الحرب العسكرية بالتدمير واخفقت في الوصول الى الهدف الذي توخته. اما ما يراهن الحزب عليه فعلياً، فهو ان النتائج السياسية لحرب غزة لن تكون اقل اهمية من تلك التي افضت اليها حرب لبنان: بقاء حماس هو انتصارها الفعلي كحليفها اللبناني. مفهوم كهذا ملتبس في المنطق السياسي كما القانوني كما العسكري، بيد ان “حزب الله” جعله شعاراً حقيقياً أقنع به جمهوره وخصومه وأعداءه.
هذه المرة لن يصيب رئيس الحكومة “الاسرائيلية” بنيامين نتنياهو ما اصاب اسلافه عندما خسروا حروبهم كإيهود اولمرت في حرب 2006 ومن قبله مناحيم بيغن في حرب 1982، ومن قبله غولدا مائير في حرب 1973، بتنحيهم جميعاً وذهابهم الى العزلة. ما يقدم عليه نتنياهو – الموصوف منذ مهاجمة حماس غلاف غزة بالجثة السياسية – مجازفة غير مأمونة. لا يملك سوى الخيارات السيئة. المحسوب انه ما ان يخرج من منصبه بعد وضع الحرب أوزارها لن يمضي السنوات الباقية في تقاعد هادىء كأسلافه. بل قد يكون مصيره اسوأ. لن يجلو غبار ما حدث في الجيش “الاسرائيلي” واجهزة استخباراته وذعر المجتمع والرهاب المحدث الذي بات يعيشه، الا بعد وقف النار والتفاوض السياسي الحتمي.