| علاء حسن |
شهد العالم في السنوات الأخيرة، صعود موجة من الحركات التي كانت قد هُزمت في منتصف القرن العشرين، وانبثاق حركات أخرى كانت النتاج الفعلي “للعولمة الحمقاء”، كما أسماها أحد أهم رموز المدرسة الليبرالية الأميركية والتر ليبمان. ومن هذه الحركات “الشعبوية” التي اندفع النظام “الأنغلو ساكسوني” في التعبير عنها بقوة، عبر إبراز شخصيتين تعبران عن هذا التوجه، وهما الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، حيث عبّرت الشخصيتان عن ميول الغرب في البدء بإظهار الصورة الحقيقية التي ينتمون لها، من دون مراعاة للقواعد العالمية الحاكمة لأعراف إدارة الدول والمجتمعات.
من جهة أخرى، برز مؤشر آخر في الغرب بدأ منذ الحادي عشر من أيلول عام 2011، عندما مارست الولايات المتحدة سياسة الخوف، وهو ما عبرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون من خلال كتابها “امبراطورية الخوف”، حيث شرحت عن أسباب ظهور “الانعزاليين” بسبب السياسة المتبعة من قبل بوش الإبن وفريقه، الأمر الذي امتد إلى “القارة العجوز” بقوة، وظهر على شكل اليمين المتطرف في بداية الأمر.
ومع ظهور اليمين المتطرف الحامل للفكر الانعزالي وفق ثابتتين: العرق الأبيض والديانة الكاثوليكية، برزت أولى معالم الفاشية، خصوصاً مع صعود اليمين في أكثر من دولة أوروبية مؤثرة.
على أن هذه الانعزالية الشعبوية اليمينية الأميركية الممتدة إلى أوروبا، يكاد حصادها يظهر بقوة في معسكرات اليمين الانعزالي الأوروبي، عبر صور حياتية متباينة، ثقافية ودينية، عرقية واجتماعية، وهو ما يعني أن “طريق الشوك” الأوروبي سوف يجرح الكثيرين في الداخل، قبل أن يمتد أثره السلبي إلى العالمين العربي والإسلامي، حيث الجيران الأقرب جغرافيا، والنسيج الإنساني المتلاحم ديموغرافيا تاريخياً.
ويعني هذا أن “ربيع أوروبا”، المتمثل بوجود الاتحاد الأوروبي، قد يكون في نهايات موسمه، وما خروج بريطانيا من الاتحاد ضمن مسار “البريكست” سوى أحد مظاهره الساطعة.
هذا ما يحدث في العالم. ولكن، ما علاقة كل هذا مع رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل؟
من الواضح أن باسيل قرأ إشارات الغرب والمسار الذاهب إليه بدقة، وراجع تاريخ المسيحيين في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي، والسبل التي انتهجها كميل شمعون وبيار الجميل وآخرين، فوجد أن الطريق الوحيد لإثبات شعبيته وإرجاع “الضائع” منها، هو التماهي مع هذا الخط، مضحّياً ـ ولو بشكل جزئي ـ بالشراكة الوطنية التي عززها الجنرال ميشال عون من خلال “ورقة مار مخايل”.
لا شك أن باسيل لن يحرق أوراقه بالكامل خدمة للمسار المتصاعد في الغرب، وهو يعلم أن تأثيرات هذا المسار تحتاج إلى بعض الوقت كي تصل إلى المشرق، لكنه يدرك جيداً أيضاً أنه إذا ما لم يقم بخطوات عملية منذ الآن، فإنه سيفقد هذه الورقة خارجياً، ومسيحياً في الداخل.
هذا ما جعل الرجل يفتح سجالاً في ذكرى بشير الجميل، وقد استكمل “المسرحية” عبر تعيينه رمز الانعزالية البرتقالية، ناجي حايك، في منصب “نائب رئيس التيار”، ليوصل رسالة إلى الغرب ويفتح كوة عبره إلى أعالي البحار، وفي نفس الوقت يحاول ابتزاز “الثنائي الشيعي” للحصول على مكاسب أكبر مقابل احتواء اندفاعة الرجل الانعزالي في تصريحاته ومواقفه.
لكن خطوة باسيل هذه، والتي أتت بعد هزيمتين تلقاهما في الأشهر الماضية، تمثلا في الاتفاق الإيراني ـ السعودي الذي ضرب خطوط تحالفات تتعلق بالانتخابات الرئاسية، وترشيح جهاد أزعور الذي أفضى إلى هزيمة اليمين الممتد إلى ما وراء القارة الأوروبية.
إلا أن هاتين الهزيمتين، لم تجعلا باسيل يتنبه إلى نقطتين جوهريتين في عملية الانعزال التي ينتهجها:
الأولى، أن الانعزاليين في أوروبا وأميركا لم يعملوا بشكل يُضرّ بالحدود الجغرافية لبلدانهم، وهذا يعني أن التناغم في الانعزال في أوروبا قد يؤدي إلى فرط عقد الاتحاد الأوروبي، ولكنه سيحافظ على الكيانات الرسمية التقليدية، التي ليس من المعلوم كيف ستبني تحالفاتها في العالم الجديد قيد الولادة. في المقابل، فإن الانعزاليين في لبنان، والذين انضم باسيل إليهم، يعملون على الانعزال عن محيطهم القانوني والشرعي والديموغرافي، ولو من بوابة اللامركزية الإدارية في الوقت الراهن.
والنقطة الثانية، أن الانعزال، إذا ما تسرب إلى منطقتنا، فإنه سيؤدي إلى موجات من الانعزال القومية والدينية، والتي ستكون بالتأكيد في غير صالح ما يريده باسيل ومن وراءه. بالتالي، كان الأجدى بالرجل توسيع دائرة تحالفاته خارج العزلة التي يبحث عنها، قبل أن تمتد إلى مئة عام ولا يحصل منها سوى على نسخة من رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة ليكتشف الفرق بين الخيال والواقع!