| جورج علم |
بين النيجر ولبنان أوجه شبه. النتيجة تكاد أن تكون واحدة، فيما الوسيلة مختلفة. هنالك انقلاب، وهنا انقلاب. هنالك مجلس عسكري، وهنا مجلس ملّي. هنالك رئيس منتخب خُلع. وهنا رئيس لم ينتخب بعدما استوطن الفراغ القصر الجمهوري. هناك فرنسا القويّة التي بدأ نفوذها يصبح في خبر كان، وهنا فرنسا القويّة التي أصبح نفوذها في خبر كان. هنالك بلد تشكّل المساعدات الخارجية 60 بالمئة من موازنته، وهنا بلد يعيش “عالشحادة” منذ سنوات، ويحاول الآن التذاكي على صندوق النقد الدولي. هنالك بلد غنيّ باليورانيوم والمعادن، وهنا بلد يقال إنه غنيّ بغازه ونفطه في مياهه الإقليميّة. هنالك دول بدأت بسحب رعاياها خوفاً من الآتي في مستقبل الأيام، وهنا دول بدأت تطلب من رعاياها الإنسحاب والمغادرة تحسّباً لما قد يحصل في مستقبل الأيام!
لا يعرف الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط أسباب “الهلع” الخليجي. زار زعيم المختارة عين التينة، وناقش مع الحليف آخر المستجدات، وخرج بانطباع يفيد بأنهما لم يتوصلا إلى قناعة مشتركة تبرّر دعوة رعايا دول مجلس التعاون الخليجي وألمانيا إلى توخي الحذر، والمغادرة على وجه السرعة. حكومات الدول الداعية تعرف ما يجري في أزقة البلد وكواليسه، وما يجري حول البلد والسيناريوهات التي تعد لشعوبه المنقسمة، ولأنها تعرف دعت رعاياها إلى الحيطة والحذر.
إثنتان من هذه الدول مشاركتان في اجتماعات الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة حول لبنان، وموقّعتان على بيان الدوحة الأخير، وملمّتان بتفاصيل الإنقلاب فيه. يخرج عضو المجلس المركزي في “حزب الله” الشيخ نبيل قاووق يوم الأحد، وفي مناسبة اجتماعيّة، ليؤكد وجود حوار بين “الحزب” و”التيار الوطني الحر”، واصفاً إياه بـ”بصيص أمل وحيد في البلد، في ظل الجمود، والتوتر، والإنسداد السياسي”، ويعلن “أن محور هذا الحوار هو انتخاب رئيس للجمهوريّة”، ويشدّد على أنه “حوار مستمر ومتواصل بشكل إيجابي، ولا ينتظر أي تحرّك خارجي”.
ثمة أسئلة:
-إذا كان يشكّل بصيص أمل، فأين حركة “أمل” منه؟
-إذا كان محوره انتخاب رئيس للجمهوريّة، فلماذا هدر الوقت، ولماذا قاعة مجلس النواب لا تزال مقفلة؟
-وإذا كان الحوار مستمراً ومتواصلاً بشكل إيجابي، ولا ينتظر أيّ تحرّك خارجي، فلِمَ إنتظار أيلول، وعودة الموفد الرئاسي الفرنسي؟!
قد يكون هناك حوار، والشيخ نبيل قاووق صادق، ولكنّه حوار إنقلابي، أو وسيلة معتمدة لتحقيق الغاية، والإمساك أكثر بمفاصل البلد. رئيس ماروني انتهت ولايته بحكم الدستور، فانتخب الإنقلابيّون الفراغ مكانه بقوّة الإجتهاد والتذاكي في تفسير مواد الدستور. حاكم المصرف المركزي (ماروني) غادر مع إنتهاء ولايته، ليحلّ مكانه نائبه (شيعي) لأن السيّد حسن نصرالله، أطلّ يوماً على اللبنانييّن ليعلن، وبحزم: “ممنوع تعيين حاكم”.
إنه الإنقلاب. المكوّن القوي يحكم لبنان. رئيس حركة “أمل” الرئيس نبيه برّي، هو المسؤول الدستوري الأول في البلاد بحكم منصبه كرئيس للمجلس النيابي، وفي ظلّ التعطيل الممنهج والمبرمج لانتخاب رئيس للجمهوريّة.
مالية البلاد في عهدة فريق معروف حسباً ونسباً… من وزير المالية، إلى حاكميّة مصرف لبنان “لأن الضرورات تبيح المحظورات”!
أما الحزب فله في الدار، القرار، والإعتبار، والإختيار. وحده يتحدّث عن الإنجازات. وحده يحدّد الأولويات، ويرسم الخيارات، ويرخي باللوم على المكوّنات الأخرى التي لا تجاريه في خياراته.
إنه الزمن الإنقلابي الذهبي للبعض، فيما للآخرين زمن التقهقر، والإنصياع، والضياع. أين المكوّن المؤسس وموقعه حاليّاً في البنيان الوطني؟ اغتيل رجل الطائف. أُبعد صاحب القامة، ووريث الزعامة، وبقي الملعب لركلات التسديد.
أين المكوّن الآخر لدولة لبنان الكبير؟ تهاوى حجر العقد، فتهاوت القنطرة الوطنيّة، وانتفت القدرة على اتخاذ القرار، وتصويب المسار؟ وليس من حديث عن سائر المكونات الأخرى التي لها من القدر والقيمة ما يجعلها صاحبة حضور وتأثير، وإن كانت اليوم قابعة تراقب مسار الإنقلاب، تنتظر مرور العاصفة.
هذا اللبنان غادره طائر الفينيق هربا من لاءات ثلاث مشؤومة: لا رئيس للجمهوريّة إلاّ وفق دفتر شروط. لا حوار إلاّ بعد تقديس السلاح وتكريسه، والتسليم بدوره في الداخل والإقليم. لا إصلاحات، إلاّ بما يتوافق مع الإستراتيجيات المرسومة، والتحالفات المعلومة.
يستمر الانقلاب، ويستمر الوهن. أما الحوار بصيغته المتداولة فليس بحوار، بل وسيلة استئثار، وفرض خيار، بمعنى: “هذا هو القطار. وهذه هي السكة، وما عليكم سوى الإلتحاق بالمقطورة”!
يرفضون التدخل الخارجي، وهذه مأثرة وطنيّة سياديّة لا غبار عليها، ولكن أليس هم المفاخرون المجاهرون بارتباطاتهم التحالفيّة مع محور خارجي يمدّهم بالزاد والعتاد، وله أجنداته ومصالحه في الداخل والإقليم؟ وكيف يعيبون على الآخرين ارتباطاتهم، وتحالفاتهم ، وهم من يعزف على الوتر، ويرقص على رؤوس الإبر؟!
خطورة المرحلة ليس بما نريد، بل بما بقي من رصيد. لبنان مجوّف. الدولة منهارة. المؤسسات هياكل عظميّة مفككة، والحاضر والمستقبل من دون ضمانات. وقبل الوصول إلى أيلول هناك مطبات ثلاثة: أي جديد تتخوف منه دول مجلس التعاون الخليجي، ما حملها على ترحيل رعاياها عن لبنان؟ أي جديد سيحمله دفتر العقوبات بعدما التقى الكونغرس الأميركي مع الإتحاد الأوروبي على ضرورة فتح صفحاته، وتفعيل مضمونه؟ وأي جديد سيزفّه مجلس الأمن الدولي عندما يجتمع نهاية هذا الشهر للتمديد لمهام القبعات الزرق في الجنوب سنة إضافيّة؟ وهل يأتي قرار التمديد وفق ما يشتهي المركب اللبناني، أم أن باباً قد يصار فتحه لتدخل خارجي تحت عنوان “ألأمر لي”؟!
إن ما بين لبنان.. والنيجر.. العديد من أوجه الشبه!
(*) الآراء الواردة في المقالات لا تعبّر بالضرورة عن سياسة موقع “الجريدة”