| جورج علم |
عاد الطائف إلى سوق المزايدات. الكل يحاول غرس مسمار بوتده. والكل يطالب ببراءة ذمّة، ويؤكد خالص الوفاء، والولاء. لكن الطائف لميطبق، ويعود إليه الحنين مع تزايد الدعوات إلى الحوار، ويبقى الحوار حتى الساعة من دون عنوان. البعض يريده لتكريس الغلبة، فيما الآخر يرفضه حرصاً على استقرار الحلبة.
وما بين التمسّك بالطائف، والإصرار على الحوار، دلف الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان عتبات المملكة العربيّة السعوديّة. كانت الأبواب مفتوحة على الرحب والسعة، وسط أجواء متحفّظة. للممملكة أولوياتها، ومشاغلها، ولا وقت لديها تنفقه على الملف اللبناني، الذي تحفظه عن ظهر قلب، قبل اتفاق الطائف، ومعه، وبعده.
كان للزيارة هدفان: شحن مهمته بالطاقة الضروريّة ليتمكّن. والبحث في موضوع الحوار.
سبقه السنّي الأول في هرميّة السلطة. أدى الرئيس نجيب ميقاتي فريضة الحج. قابل، كغيره من رؤساء وفود الدول، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. تحيّة، وسلام، ومعايدة بالأضحى المبارك، دون أي كلام يُركن له حول الشأن اللبناني. السفير وليد البخاري في بيروت “مكفّى، وموفّى”، وينفّذ بدقة وأمانة سياسة بلاده.
بدوره، عاد مفتي الجمهوريّة، سماحة الشيخ عبد اللطيف دريان من الديار المقدّسة. ونقل عنه زوّاره الحاجة الملّحة لإنتخاب رئيس، دون أي كلام لافت حول الحوار.
وحده الرئيس نبيه برّي، المطّلع، والمدقّق بالوارد والشوارد، والمتابع حركة لودريان، وتنقلاته على ضفاف النهر اللبناني الصاخب بالليالي الملاح، والطرب حتى الصباح، أفتى قائلا: “عشنا ومتنا حتى أنجزنا إتفاق الطائف. وأقول لمن يريد تغييره فليقعد عاقل أحسن له”.
رسالة برّي لم تكن برسم بعض من في الداخل، بل هي للخارج أيضاً، وبالبريد السريع عاجلاً إلى الرياض للتوضيح بأن الحوار ليس من مطابخ عين التينة، أو حارة حريك، ولا هو حكرا على الثنائي لتحقيق مآرب، أو تكريس مكاسب، بل مجرّد وسيلة لتحقيق غاية، وانتخاب رئيس، والخروج من جهنّم… لكن الخروج صعب، وبحاجة إلى”سوبرمان”، ربما يكون لودريان، طالما هناك استحالة أن يكون “صنع في لبنان”.
وفق المتداول، فإن السعوديّة ليست ضد الحوار، بل ضدّ إستغلاله، وركوب مطيته لأخذ البلد نحو منعطفات سحيقة يصعب العودة منها لخطورة منزلقاتها، خصوصاً أن الدفع يأتي من قوى خارجيّة تتقاطع مع سواعد محليّة لتحقيق رغبات، وتغيير أساسات لبنان، ووظيفة الكيان. كان الإستحقاق الرئاسي أولوية، وإذ يصبح الحوار لدى فريق الممانعة هو الأولويّة. ويصبح الرابط بين الأولويتين هشّاً، وعلى حساب الدستور. فالدستور واضح، ليس في محتواه بند ينصّ على الحوار كممرّ إلزامي لانتخاب رئيس. بل هناك مواد تتحدث عن آلية الإنتخاب بعيداً عن النكد السياسي، والإصطفاف الطائفي والمذهبي، والأهواء والأغراض المستوردة.
لا شيء في الدستور إسمه “مرشح تحدّي”، بل تنافس ديمقراطي،واقتراع لصالح هذا المرشّح أو ذاك، واحترام النتائج وفق القواعدوالأصول الدستوريّة. ولا شيء في الدستور ينصّ على الحوار أولاً، وانتخاب رئيس ثانيّاً. ومن يصرّ على الحوار كمدخل للإنتخاب، لا يريد الإستحقاق، ولا يريد انتخاب رئيس، بل يريد وسيلة لتحقيق غاية، أو مجموعة غايات، ومآرب تسعفها التحولات الكبرى على مستوى الشرق الأوسط، والخليج، وأيضاً على مستوى العالم، بعد جائحتي كورونا، وأوكرانيا… والثالثة التي ـ لا سمح الله ـ أن تكون على الطريق… “الغبار النووي”.
حاول الرئيس بريّ أن يلطّف من الدعوة، ويعفّف من مقاصدها، لكن الفيل السارح، هذه المرّة، من دون جوانح. وإذا كان الغرض تحييد الطائف عن رياح الحوار، فما هي الأشرعة التي تتمنّى هبوب هذه الرياح؟ وهل تبحر في مياه لبنان، أم من بحر عربستان؟
الجواب عند لودريان. لقد قصد السعوديّة وفي جعبته أولويات:
إنه سيكون خلال الشهر المقبل، أو بعده، على رأس مؤسسة فرنسيّة ـ سعوديّة مشتركة، لذلك من مصلحته تمهيد الطريق، واستطلاع الأجواء، والدخول إلى المهمّة المكتنزة من الباب العريض، ومن دون معوقات أو إلتباسات لتحقيق مصالح البلدين المشتركة.
إنه سيعود إلى بيروت، لكنه لا يريد العودة خالي الوفاض. ذهبلـ”يُرسمل” المهمة. ومن مصلحته، ومصلحة بلاده الوقوف على ما عند الرياض من مواقف، وملاحظات، وتحفّظات. يعرف أن العودة محفوفة بأسئلة مصيريّة. ما موقف فرنسا من القرار الأوروبي بدمج النازحين السورييّن، وهي الركن الركين في هرميّة الإتحاد، وصاحبة القناطر العاليّة في بنيانه؟ ما موقفها من لعبة “الشطرنج” على طول “الخط الأزرق”، وهي صاحبة الباع الطويل في قوات “اليونيفيل”؟ ما موقفها من الخريطة الماليّة ـ المصرفيّة ـ الاقتصاديّة في ظلّ الشغور، والفراغ، وسياسة الترقيع والتمييّع؟
إنه يعود، وهو المطّلع على الصفحة الجديدة ما بين الرياض وطهران، وما تحمل من عناوين عريضة، وأهداف واعدة، لكنه يعرف مسبقاً بأن قفير النحل لم يخفّ طنينه، ولا الشهد طفح عسله، وهناك الكثير من الحاجة إلى الدبلوماسيّة المرهفة الفطنة لتدوير الزوايا الحادة قبل بلوغ المرتفعات الرحبة.
إنه يعود، وهو الفطن المجتهد بقراءة كتاب المتغيّرات في الخليج. يعرف تماماً بأن الطائف من ثوابت السياسة السعوديّة تجاه لبنان. ويعرف أن ما من أولوية لديها حتى هذه اللحظة تتقدم على أولويّة تطبيقه. ويعرف أكثر أن الحوار الذي يدعو إليه البعض، قد يكون مقبولاً لديها بشرط أن يكون التفاهم ما بين المكونات على خريطة طريق تؤدي إلى تطبيق الطائف نصّاً وروحاً، ووفق سلّة متكاملة، وبإختيار فريق عمل