انطلقت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أمس، مناورة “اللكمة القاضية” التي أعلن جيش الاحتلال أنها بدأت على مستوى “هيئة الأركان”، قبل أن تنتقل إلى المستويات الأدنى. تستمرّ المناورة أسبوعين، وتحاكي قتالاً متعدّد الساحات براً وبحراً وجواً وفي مجال “السايبر”، ويتمّ خلالها فحص قدرة الجيش على الاستعداد لمعركة طويلة الأمد على جبهات عدّة. وكان قد تمّ التخطيط لها مسبقاً كجزء من خطة التدريبات لعام 2023.
تشارك في المناورة قوات نظامية وقوات الاحتياط، ومن كافة قيادات المناطق العسكرية والأسلحة والهيئات. وهدفها الأساس التدريب على التعامل مع أحداث مندلعة في ساحات عدة بشكل متزامن. ويتركز ثقل الأسبوع الأول في المنطقة الشمالية لمحاكاة حرب مع لبنان وسوريا، وتشارك في هذا التمرين “فرقة الجليل (91)” و”فرقة غاعش (36)” التابعتان لقيادة المنطقة الشمالية، وتعدّان معاً أكبر التشكيلات العسكرية في الجيش، وتضمّان ألوية مختلفة من النخبة والمدرعات والمدفعية والإشارة والاحتياط.
ويجري سلاح الجو تدريبات على القتال على جبهات عدة واختبار القدرة على شنّ هجمات في “عمق العدو”، فيما يتدرّب سلاح البحرية على مهامّ هجومية ودفاعية. كما تشارك مع الجيش في إجراء محاكاة لتنفيذ عمليات إنقاذ في المدن، من بينها عمليات إنقاذ في مبنى وزارة الجيش “الكيرياه”.
قبل انطلاق المناورة بنحو 10 أيام، نظّم جيش العدو مؤتمراً خاصاً حضره ضباط كبار، بعنوان “التعرّف إلى قوة الرضوان التابعة لحزب الله”، ودرس قدراتها وأساليب عملها في حال اقتحمت الأراضي المحتلة. وعُرضت خلال المؤتمر أفلام توضح قدرات “قوّة الرضوان” في الدفاع والهجوم والأسلحة وطرق العمل، بما في ذلك الصليات الصاروخية القصيرة المدى وثقيلة الوزن، القادرة على إحداث دمار هائل بالمباني والبنى التحتية، والتسلّل إلى المستوطنات، ومحاولات الخطف والقتل والتحصّن وقطع الطرق.
وفي موازاة النشاط العملياتي، برز حراك سياسي وحكومي في الاتجاه نفسه. فبعد مؤتمر “هرتسيليا” الأسبوع الفائت، والذي أطلق خلاله المتحدثون تهديدات وتحذيرات ومن ثمّ التراجع ومحاولات التهدئة التي تبعته، دُعي وزراء “الكابينت” أمس إلى حضور “إلزامي” لـ “جلسة تعرّف على الجبهة الشمالية”، تُعقد اليوم، ويتوقّع أن يتلقّى الوزراء خلالها لمحة عامّة واسعة عن المنطقة والتهديدات الكامنة والخطط والاستعدادات.
يدرك العدو أن التهديد الحقيقي هو في توحّد الجبهات لا بالقتال في كل ساحة على انفراد
وتحمل المناورة الكبيرة، لكن غير الاستثنائية، رسائل في اتجاهات مختلفة. أولها، تأكيد إدراك إسرائيل حجم التهديد القادم من الشمال، وخطورة مضي “محور المقاومة” جدّياً في مسار “وحدة الساحات”، عبر إرسال رسائل جاهزية وردعية، تؤكّد فيها أن موقفها الأمني والاستراتيجي ليس ضعيفاً، وأنها قادرة على ضبط الجبهة وفرض قواعد جديدة في حال احتاجت ذلك. وما سبق، ليس سوى نتيجة لإدراك المستوى الأمني في الكيان بأن العملية الأخيرة في غزة، ضدّ “الجهاد الإسلامي”، لم تكن كافية لترميم صورة الردع بشكل كامل، فهذه كانت عملية صغيرة، تبعها تراشق محدود للصواريخ، وخاضها بشكل أساسي فصيل واحد من المقاومة، هو الفصيل الأصغر والأقل تسليحاً، نظراً لظروف مختلفة.
فيما يدرك العدو أن التهديد الحقيقي هو في توحّد الساحات والجبهات، لا بالقتال في كل ساحة على انفراد، رغم مخاطر ذلك أيضاً. لذلك، فإن السيناريو الرئيسي للمناورة هو مبادرة إسرائيل إلى عملية في ساحات ما (على غرار عملية الدرع والسهم في غزة ضدّ قادة الجهاد الإسلامي)، حيث يعتقد أنها تستهدف بشكل رئيسي الجبهة الشمالية، ومن ثم انتقالها للقتال على مختلف الساحات بشكل متزامن. ومن هنا، فإن مأزق صورة الردع يحتاج إلى مزيد من أدوات الترميم والتجميل، وهذه المناورة يمكن أن تكون إحدى هذه الأدوات.
أما على المستوى السياسي، فإن تل أبيب تستثمر هذه الأيام في الاستعراض العسكري والأمني مقابل “ارتخاء” القبضة الأميركية في المنطقة، خصوصاً في وجه إيران. ومن خلال كل المناورات التي أجريت خلال الفترة الماضية، أو التي ستجرى في الشهور المقبلة، توجّه إسرائيل رسالة إلى الولايات المتحدة بقدرة الكيان على التحرّك عسكرياً في المنطقة، ولو من دون دعم أميركي، وأن إسرائيل لن تقف متفرّجةً لمدة أطول على تطوّر البرنامج النووي الإيراني، خصوصاً في ظلّ حديث متزايد عن اتفاق نووي “جزئي” يُمكن أن يوقّع بين الولايات المتحدة وإيران خلال مدة وجيزة. وإلى ذلك، فإن أجواء الاستقرار والأمن التي تعيشها المنطقة العربية، تأثراً بالاتفاق الإيراني – السعودي، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، لا تروق لتلّ أبيب على الإطلاق، وتجد فيها مجموعة من التهديدات والمخاطر الكامنة.