/ جورج علم /
وفّر الفراغ الرئاسي ظروفاً مؤاتية، يستغلّها أمراء الطوائف بنباهة لتحسين أحوالهم، وتحصين مصالحهم، والإستثمار بالمعاناة لتكريس أمر واقع هم أسياده، وقوّته وقدره.
تكثر الدعوات من دول شقيقة وصديقة إلى انتخاب رئيس، ووضع حدّ للفراغ، وتشكيل حكومة، وإعادة تفعيل المؤسسات، فيأتي الجواب فائضاً بالشعارات، ومدراراً بالتوصيفات.
“حزب الله” يريد رئيساً لا يطعن المقاومة بالظهر. و”الثنائي” الشيعي يريد رئيساً لا يطعن المكتسبات التي حققها في بنية النظام، ومشاعات الدولة بالظهر.
الأحزاب المسيحيّة المنهمكة في ما بينها بحروب الإلغاء، والطعن بالظهر، تلتقي حول شعارات شعبويّة، وتختلف حول قرارات مصيريّة. كلّ تيّار، كلّ حزب، كل تنظيم يريد رئيساً متطابقاً ومواصفات مصالحه الضيقة، ويرفض المقترحات التي تتعارض مع حساباته الفئويّة، ونفوذه التسلطي.
كان البعض ـ مناوراً أو متآمراً ـ يغدق الوعود المفخّخة: “ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم”، وهو الأعلم بتنوعات مرقد العنزة، ومزاجيات القطعان، وخصوصيات المراعي. كان يدرك بأن لا مصلحة للرعيان في التلاقي والتفاهم على اختصار شهر العسل، وإنهاء أمد الفراغ بانتخاب رئيس، ذلك أن “الأوكازيون” المتاح، يسمح لكل متسلّط من أن يضاعف تسلّطه، ويوسّع دائرة نفوذه، غارساً مسماره بوتد “حزب الله”، وعلى قاعدة إذا كان للحزب ما يريد، فلماذا لا يكون للأحزاب الأخرى ما تريد؟! وإذا كان من ظلم في مكان ما، فلماذا لا يكون الظلم في السويّة عدل في الرعيّة؟!
ثمّة حقائق فرضت نفسها على المشهد العام:
الأولى، أن زعماء الطوائف في أحسن أحوالهم، وأسعد أوقاتهم. الفراغ مؤات، والظروف ولاّدة فرص، وكلّ يوم يطلّ يحمل معه معطى جديداً يعزّز نفوذهم، ويضاعف من رصيد مصالحهم، ولا حاجة للحديث عن لا مركزيات، أو فيدراليات، يكفي الإقطاع السياسي ـ الطائفي أن يزهر ويزدهر في المناطق اللبنانيّة، والمكاسب الفئويّة المزركشة، المتنوعة أشكالاً وألواناً وخصائص، وخصوصيات.
من منهم يريد رئيساً يحكم؟ لا أحد! كلهم فاعلون في مغارة “علي بابا”، متناغمون متفاهمون على اقتسام جبنة المغانم. وكلّ منهم يريد رئيساً على قياس مصالحه.. أو لا رئيس… وهذا ما هو سائد بفعل الممارسة، وحتى إشعار آخر…
الثانية، إن العديد من الدول الشقيقة، والصديقة، تبادر إلى النصح، وتبدي الغيرة، ولكنها في الواقع تريد إطالة أمد الفراغ، والاستثمار بفرصه المؤاتية. هي تعرف بأن أمراء الطوائف أعجز من التلاقي والتفاهم على انتخاب رئيس، وإذا ما سنحت لهم الفرصة، وتوافرت المقدرة، فإن لا مصلحة لهم في الإقدام، إلاّ إذا حظي كلّ منهم بسلّة طافحة من المغريات والضمانات. حجّة معظمهم، أنه لا يمكن تسليم البلد، ومقدراته، لفائض القوّة، على مدى السنوات الست المقبلة، بعد السنوات الست العجاف التي زجّت البلاد والعباد بنار جهنّم.
الخارج الذي يعرف طبيعة لبنان، وظروفه السياسيّة والاقتصاديّة ومعدن قادته، له أولوياته، وظروفه، ومشاغله. وله مصالحه التي تتقدّم في البلد على مصالح شعبه الخانع الممزّق فئويّاً، ومذهبيّاً وطائفيّاً. هذا الخارج، وحده القادر، إن شاء، على إخراج الاستحقاق من عنق الزجاجة. لكن يبدو، لغاية الآن، بأنه لا يريد، وما يريده إنما هو متنوّع تنوّع الأهداف والمصالح.
وتبقى الولايات المتحدة في المرتبة الأولى حضوراً ونفوذاً، وكلمة مسموعة. ما تريده هو البناء على الأساسات التي أرساها آموس هوكشتاين في الجنوب. ترسيم الحدود البحريّة مع كيان العدو الإسرائيلي، يجب أن يبنى عليه. هذا ما تريده كأولويّة. أما كيف، ومتى، فإنها تحتفظ بكلمة السر، وطبيعة الإخراج.
وجاء مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى المملكة العربيّة السعوديّة ـ وفق موقع “إكسيوس” الإخباري ـ ليحثّ الرياض على المضي قدماً في التطبيع، ومّد مشروع “الصندوق الإبراهيمي” بدفق من الأوكسجين للإنتعاش، ووقف التمدد الصيني، مقابل تقديم ضمانات تحول دون امتلاك إيران قنبلة نوويّة، والحصول على موافقة لتنفيذ مشروع سكك الحديد الذي يربط الخليج بالهند. ويبقى للمملكة، وتحديداً لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الكلمة الفصل في ترتيب الأولويات، وتحديد الخيارات. ولكن ما تريده الإدارة الأميركيّة، ومع بدء التحضيرات للإنتخابات الرئاسيّة، أن يكون ملف التطبيع في رأس قائمة أولوياتها في المنطقة.
وما يريده الفاتيكان، ودول نافذة في الإتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ومنظماتها المتخصّصة، دمج النزوح السوري في مجتمعات الدول المضيفة، وضمناً لبنان.
سرق هذا الملف الأضواء عن الإستحقاق الرئاسي. أصبح حديث الساعة. وهناك ” طابور” يستغلّ، ويعبئ إعلاميّاً لتحقيق مكاسب رخيصة، ومصالح ضيقة، فيما المعالجات الجديّة لا تكون على مستوى مرتشي، أو سمسار، بل على مستوى قرار وطني جامع، وشفّاف، يلاقي المبادرات العربيّة والدوليّة الرامية الى تنفيذ تسوية سياسيّة شاملة للأزمة السوريّة، بينها عودة النازحين ضمناً.
إن أمراء الطوائف لم يجتمعوا، ويجمعوا الرأي على إعتماد هذا القرار السيادي، والدليل أن ردود الفعل حول العودة المشروطة لسوريا إلى الجامعة العربيّة، كانت متباينة، لا بل متصادمة ما بين مرحب، وصامت، ومنتقد.
وما تريده الدول العربيّة عامة، والخليجيّة خاصة، أن يعود لبنان إلى حضنه العربي، قيمة مضافة، حاضراً، فاعلاً، مؤثراً، ساحة تلاق، ومنتدى حوار، وجسر تواصل. وأن تعود بيروت زهرة المدن، ولؤلؤة المتوسط. المشكلة أن البعض في الداخل لا يريد. والأكثريّة لا تملك زمام المبادرة.
ويبقى الفراغ ولاّد أزمات، والأزمات يستغلّها أمراء الطوائف لبسط نفوذهم، وإعلاء أبراج مصالحهم.