/ فاطمة جمعة /
لطالما كان العالم العربي السبّاق بالفلسفة والعلوم والفكر، وهو مهد الديانات السماوية، ومنه نهضت الحضارات وانتشرت قيمها. لكن في غفلة من الزمن، انعكست المعادلة، فرجع العرب خطوة إلى الوراء لحساب تقدم الغرب، وربما خطوات. ليصبح الأخير في عصرنا هذا، مصدّر العلوم والفكر، والسبّاق حتى، في تطبيق “قيمنا”.
بريطانيا تسمح لمضيفات الطيران ارتداء الحجاب
قبل أيام، كشفت شركة الخطوط الجوية البريطانية، عن تصميم زي جديد لمضيفات الطيران، يشمل خيارات متعددة بما فيها خيار السترة والحجاب اللواتي يفضلن ارتداءها في السماء. بدأ العمل على هذا التصميم عام 2018، وهو الأول منذ آخر تحديث للزي عام 2002 بعدما عرف المسافرون الزي الأحمر والأزرق الكلاسيكي. ويمكن للنساء الاختيار بين التنورة أو البنطال، أما بالنسبة للرجال، فسيتم اعتماد بدلة من ثلاث قطع مع بنطال عادي أو ضيق.
يتسم الزي الرسمي الجديد ـ من توقيع أوزوالد بوتينغ ـ بالمرونة للقيام بالوظائف المختلفة للطاقم، بحيث يمكن أن يكون زياً مفيداً بالإضافة إلى كونه من الملابس العصرية. ويمكن رصد نمط جديد يعرف باسم “الموجة الهوائية” على السترات والقمصان والأزرار وربطات العنق، إذ أن التصميم مستوحى من تدفق الهواء فوق جناح الطائرة، مع شريط منمق على الصدر.
وقال رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة الخطوط الجوية البريطانية شون دويل: “زينا الرسمي هو تمثيل مبدع لعلامتنا التجارية، وهو أمر سيأخذنا إلى مستقبلنا، ويمثل أفضل ما في بريطانيا الحديثة ويساعدنا على تقديم خدمة أصلية بريطانية رائعة لعملائنا وهذا يتعلق بشعبنا”. وأضاف “أردنا إنشاء مجموعة أزياء يفخر موظفونا بارتدائها وبمساعدة أكثر من 1500 زميل، نحن على ثقة من أننا قدمنا هذا”. وسيتم الانتقال من ارتداء الزي القديم إلى الزي الجديد في صيف عام 2023 وسيتم إعادة تدوير العناصر البالية أو وضعها في متحف شركة الطيران أو تقديمها للجمعيات الخيرية.
لبنان موطن الحريات المزيفة
يتغنّى اللبنانيون بتمتعهم بمختلف الحريات، غير أنهم يمارسون “التأطير” على هذه الحريات وفق أجندتهم وما تبتغيه مصالحهم. خلع الحجاب يعتبر “حرية”، لكن ارتداءه في العمل “تخلف”. كشف مساحات من جلد المرأة “دليل تحضّر”، لكن تغطية الجسم بالملابس يتنافى مع ثقافة “البريستيج” التي تربّى عليها اللبناني. لا جدل أن ثقافة “المظاهر” و”التقليد” و”الاستهلاك” وغيرها من التعابير، توغلت في عقول الناس وحرّفت أنماط سلوكه، لا سيما في ظل التداعيات السلبية لعصر المعلومات ومواقع التواصل على فئات المجتمع، فصار من البديهي أن ترتدي مضيفات الطيران اللبناني “التنورة القصيرة”، ومن الطبيعي عبارة “أن تكون حسنة المظهر” عند قراءة شروط العمل، كما من المسلم به أن تنحصر مهنة القضاة بإناث “بالشوشة” على نحو العامية، بالمقابل “تُحجب” عن المحجبات.
حريات مزيفة تنتهك الأعراض، حرية ممارسة الشعائر الدينية تُسحق في حرم الجامعات على اعتبار أنها فعل تضييق وازعاج للآخرين، حرية الاعتصام وإقامة الاحتفالات وتلاوة الأناشيد والاغاني التي تُسيَس على أنها احتلال وغزو ثقافي. جميعها حريات مكرسة في الدستور اللبناني، وكفلتها الشرائع والمواثيق الدولية، أما في دولتنا، فيطبق اللبناني القوانين على هواه.. ويتباهى بالحريات!
قيود وتحديات واجهت المحجبات
تروي فرح في حديثها لموقع “الجريدة”، تجربتها في التقدم لعمل على مكتب الاستقبال receptionist” ” في إحدى المستشفيات، والتي يملكها ويديرها “مشرّع” لبناني من المفترض أنه العين الساهرة على تطبيق القانون ومساعدة المواطنين. يوضح مدير قسم الموارد البشرية، على لسان فرح، أن “الوظيفة مخصصة لغير المحجبات”، عازياً السبب إلى أنه منصب في الواجهة وعلى احتكاك مع الوافدين، أي يمثل صورة المستشفى، وكأنه يقول إن “الحجاب يشوه صورة المستشفى” ـ “الكلاس”. بين خياري خلع الحجاب أو البطالة، اختارت فرح أن تكون عاطلة عن العمل، لتكون واحدة من مئات القصص المجسِّدة لمظاهر انتهاك حق الإنسان في لبنان بالمأكل والملبس كما يشاء.
هذه التجربة، تعيدنا بالذاكرة لما حصل في مول ABC Verdun، حيث أثار رفض المجمع التجاري تولي سيدة محجبة البيع على “ستاند” يعود لمتجر مختصّ بالأغراض والأدوات المنزلية، وطلبه من المحل استبدالها، موجة غضب عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي، استنكاراً لهذا التصرّف الذي اعتبره الناشطون “معيباً وعنصرياً، ويأتي تكملةً لتهميش دور المرأة المحجبة في المجتمع وسوق العمل بشكل خاص”. وقتذاك، علّلت إدارة المول في بيان، خطوتها طرد الفتاة بأن “السياسة الداخلية المعتمدة تمنع إظهار أو عرض الملحقات أو الاكسسوارات الدينية”. البيان هذا، أدى إلى حملة مقاطعة واسعة جداً من مرتادي المول، وسط مطالبات بإغلاق أصحاب المتاجر محلاتهم داخله.
لم ينص الدستور اللبناني على منع المحجبات من الإنخراط في السلك القضائي، كما لم يحدد تفاصيل مظهر القاضية لناحية “موديل” الشعر أو الاكسسوارات او الأحذية، إلا أن الأعراف الدستورية، التي تحظى بقوة شرعية لا تختلف عنها بالقوانين المسَنّة، جعلت حلم مزاولة مهنة العدالة أشبه بـ”حلم إبليس بالجنة”، لتكون العدالة بالحفاظ على أشكال “الدولة المدنية المتحضرة، ومنع أشكال الانتماء الطائفي”. وفي هذا السياق، كان طلاب كلية الحقوق ـ الفرع الخامس في الجامعة اللبنانية، نظموا تحركاً عام 2019 أمام وزارة العدل، حيث رفعوا لافتات تحمل شعارات “حجابي ليس حائلاً لعدالتي”، و”رجاحة العقل في الرأس وليست في غطاء الرأس”.
محجبات أكبر من مجرد مضيفات
تتميز شركات الطيران في مصر والسعودية، بسماحها توظيف محجبات داخل الطائرات، إلا ما ندر منها، فيما يمنع لبنان، ارتداء المضيفات للحجاب. وتحظر شركة طيران الشرق الأوسط العمل عن المحجبات، لأن موظفيها وطائراتها، تجوب بلدان العالم لتظهر الصورة النمطية التي زرعت عن الفتاة اللبنانية، الجميلة بـ “مفاتنها”، وتكريس ثقافة المظاهر.
وبموازاة ذلك، رفضت إدارة السوق الحرة في مطار بيروت الدولي، توظيف الشابة دينا الدر بسبب حجابها، وكتبت في منشور نشرته بتاريخ 20/5/2022: “تقدمت للعمل في مطار بيروت الدولي، لحاجتي إلى العمل في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، مؤمنةً بحقي في المساواة مع جميع مكونات الوطن في الحصول على وظيفة، لكن الشركة التي تقدمت للعمل فيها لا تقبل توظيف المحجبات”، متسائلةً: “لماذا يتم منعي عن التوظيف في بلدي، بينما في أوروبا وأميركا يوظفون المحجبات؟”.
إنطلاقاً من هنا، وبعد قرار الخطوط الجوية الإنكليزية إتاحة ارتداء الحجاب بين المضيفات، ألا يستدعي الأمر أن تنتقل “عدوى” هذه “الحرية”؟ لماذا لا يتحمس اللبنانيون للسماح بالحجاب في مختلف الوظائف على غرار المضيفات البريطانيات، بدل أن تقتصر حماستهم على تقليد الغرب بأصغر التفاصيل وأعدم السلوكيات؟ لماذا ننتقد ظاهرة رهاب الحجاب “hijabophobia” في ألمانيا وفرنسا، ونحن نمنعه في وطننا؟