الراعي

البطريرك.. و”مجد لبنان” المشظّى!

/ جورج علم /

إصطحب  البطريرك بشارة الراعي معه إلى الفاتيكان وفرنسا، ما تبقّى من مجد لبنان، في محاولة لإعادة الترميم أو الترسيم.

لبنان الكبير شاخ. فقد رونقه. إستنزف عافيته. دبّ الوهن في مفاصله. بدّد رصيده. تنكّر لثقافته. أرغمه السلاح على إعتناق ثقافة أخرى لا تشبهه، وقال فيه يوماً: “وما المجد سوى الفتكة البكر”. يتساءل دائماً: من هؤلاء الذين يحتكرون مجد لبنان؟  من أين أتوا؟ وما هو المجد الذي يتغنوّن به؟ ومن أولاهم هذا الشرف؟ المجد للسلاح العابر للحدود، والمجنّد لخدمة أجندات خارجيّة، ولثقافات صاغت أبجديتها شفار السيوف، ولمهمّات غبّ الطلب مزدانة بشعارات الهيجاء والبيداء.

إصطحب معه، ساعي بريد، إسمه لبنان، وساحة مفتوحة لتبادل الرسائل، وتصفية الحسابات. البعض يريده منصّة صواريخ مستوردة، مبرمجة وفق إحداثيات خارجيّة، تحاكي التاريخ بنواغصه ونواقصه، وتريد إصلاحه، فيما البعض الآخر يريده وفيّاً لمبررات وجوده، موئل حريات، وملجأ أقليات، ومختبر ثقافات، وحضارات، وخصوصيات خمّرتها خوابي الأيام، ودمجتها كيمياء  تفاعليّة تركت عبقاً فوّاحاً من صحيفة الصباح، ومقهى الرصيف، أو من خدمات مستشفى راقٍ، ومحاضرات جامعات نوّارة، أو من رفوف مكتبة وثيرة، ورونق فندق فخم، أو من منتجع هانىء، ومصيف فاتن، وشاطىء صدّر الحرف، وتحوّلت رماله كرّاساً يحوي كل أبجديات العالم.

إصطحب معه الـ10452 كيلومتراً مربعاً، وقد تحوّلت إلى خربشات على ورقة صفراء، في هذه الزاوية، حُشرت القضيّة الفلسطينيّة بمخيمات العودة التي لم تتحقّق منذ ما يزيد عن الـ80 سنة، وحُشرت في المخيمات كل الفصائل الثوريّة، والأجنحة، والأسلحة، والهويات، والأغراض، والخلفيات، وأجيال تنمو على أهازيج “اليوم اليوم وليس غداً، أجراس العودة فلتقرع”، لكن  لا عودة حتى اليوم،  والخشية من غد أعور!

وفي الزاوية الأخرى حُشرت ملايين النازحين المنتشرين، يرعاهم قرار دولي، يدعو إلى الإندماج، ويستثمر بمعاناتهم، له أهدافه، ويتصرّف وفق مقتضيات مصالحه، وله في البيئة الداخليّة متجاوب،  ومتواطىء.

وفي زوايا مماثلة، حُشرت تراكمات الفساد، وحكايا السلب والنهب، وتبديد المكتسبات، وتقويض المؤسسات، فتحول الوطن الى ورقة خريف بُعيد إعصار 17 تشرين، وانفجار المرفأ.

والذي قصد الفاتيكان وفرنسا يحمل على منكبيه بقايا وطن وكيان، وبين يديه إخفاقات عدّة، أخفق ـ لغاية الآن ـ في تحقيق الحياد الإيجابي للبنان. وعندما طرح هذا الخيار، جاءه من يقول: لا يمكن الحياد، وفلسطين محتلة. وأخفق في تأمين ورشة عربيّة ـ إقليميّة ـ دوليّة تتعهّد مشروع الحياد، وتساعد على شقع مداميكه، وإنجاز بنيانه. وأخفق في جمع قادة الموارنة حول كلمة سواء، وحوار بناء، وتفاهمات عميقة تفرضها المتغييرات المحليّة ـ الإقليميّة ـ الدوليّة.

ما يريده البطريرك من الفاتيكان وفرنسا، معرفة أيّ لبنان يريدان؟ ثم ما هي حدود القدرات والإمكانات المتوافرة، لدى كليهما، لإعادة تركيب “البازل” اللبناني؟ ثم هل هما على موجة واحدة تجاه لبنان، أم لكلّ منهما نظرة مختلفة، ومقاربة مغايرة؟ وتكبر علامة الإستفهام عند التأكد بأن لا الفاتيكان، ولا فرنسا، يملكان جواباً نهائياً واضحاً قاطعاً حول المسألة اللبنانيّة، كونهما جزء من كل، وطرفان ضمن مجموعة تضمّ آخرين، من اللقاء الخماسي، إلى الروسي والإيراني، ودورهما في صراع المحاور على رقعة الشرق الأوسط. لكن ما يُبنى عليه أن فرنسا، من موقعها المنفتح على كلّ من إيران والسعوديّة، تعمل على جمع اللقاء خماسي من جديد لإطلاق خريطة طريق، بالتنسيق مع طهران، تبدأ بانتخاب رئيس، وتشكيل حكومة قادرة على تحقيق الإصلاحات التي لا بدّ منها.

وكانت فرنسا صادقة مع نفسها، وصريحة مع البطريرك، ليست هي المسؤولة عن المسار الإنحداري للموارنة، بل قادة الموارنة أنفسهم وسياسات الإلغاء في ما بينهم. وليست هي المسؤولة عن ترشيح سليمان فرنجية، لكنها تعتبره من الموارنة الأقوياء، وقد رشحه “ثنائي” له مكانته بين سائر المكونات، فيما عجزت المعارضة عن اختيار بديل أفضل وأنسب لمصلحة اللبنانيّين، والمسيحييّن تحديداً. وليست هي المسؤولة عن الفراغ، وإستمراره، لكن دبلوماسيتها سبق لها وحذّرت القادة الموارنة أولا، وسائر المكونات، بأن الفراغ الممدّد، قد يقود إلى أمرين: إما انتخاب رئيس يختاره توافق دولي ـ إقليمي ـ عربي ـ خليجي، أو الذهاب نحو مؤتمر تأسيسي، يفقد خلاله الموارنة عدداً من المناصب الهامة في الدولة.

وفرنسا الحريصة على التنوّع، وعلى المناصفة، وعلى الطائف، غير مستعدة ـ كما يتمنى البعض ـ أن تخوض معارك شرسة دفاعاً عن الموارنة، ومواقعهم في الدولة، والنظام، والمؤسسات. إنها صاحبة مصالح، ومصالحها فوق أيّ إعتبار آخر. كانت حاضرة إلى جانب “حزب الله”، والحكومة اللبنانيّة، والولايات المتحدة، و”إسرائيل” في إتفاق الإطار لترسيم الحدود المائية، وهي حاضرة الآن من خلال شركة “توتال” في الحقل رقم 9 في الجنوب. وكانت حاضرة بعيد تفجير مرفأ بيروت، وهي الآن في المرفأ، إنطلاقا من حوض الحاويات. وهي تخطط الآن لكي تكون حاضرة في إستثمارات كثيرة.

لقد طرح الملف الرئاسي في كلّ من الفاتيكان، وفرنسا، وهذا إستحقاق مهمّ لا جدال حول رمزيته، لكن الأهم يبقى معرفة أي رئيس لأي لبنان. لبنان الدولة أم الدويلة، أو لبنان آخر مُرَكَّب؟!

إن الحريص على لبنان الـ10452 كيلومتراً مربعاً، لا تقلقه هواجس المساحة، بل هواجس أخرى لا يكون فيها مجد لبنان على إمتداد مساحة الـ10452 كيلومتراً مربعاً، بل ربما على مساحة لا مركزيات موسّعة، أو فدراليات، أو نظام مقتبس من التجربة السويسريّة، أو تجارب دول أخرى مماثلة!